كثيرون يعتقدون أنهم يستمتعون بالمشهد البحري من خلف واجهات بيوتهم الزجاجية في أبراج الواجهة البحرية لبيروت. قد يجد هؤلاء أن أموالهم «لم تذهب سداً» أمام هذه اللوحة التي لا تعرف حدوداً. غير أن الواقع، الذي لم يكتشفه سكان الواجهة البحرية، هو أنهم من أبراجهم المرتفعة لا يرون من بحر بيروت سوى ألوان بلا حياة. والأخيرة لا يُسمع صوتها إلا هناك في الأسفل، حيث الأمواج والمراكب والصيادين.
الدالية، ليست سوى الموطن الأخير لصيادي بيروت، والتي ستقبع بعد حين خلف سياج حديدي، بدأ رجال الدرك بنصبه لمنع العامة من الاقتراب من البحر الذي اعتادوه، ولتهجير «أصحاب الرزق»، الذين اتخذوا البحر موطناً لهم. هذا «التهجير»، أو «الترانسفير» الذي يصار إلى التعويض عنه مقابل مبالغ مالية، لا تغطي أثمان القصص والهواء المجاني.

أنا من البحريين

يشرح أحد الصيادين من آل «عيتاني»، الذي ولد وترعرع على شاطئ الروشة الصخري، أن عدد المتضررين من تغيير معالم منطقة الدالية كان 24 شخصاً في البداية، تم التعويض على 11 منهم، فيما بقي الـ13 الآخرون من دون تعويض، بعد أن سجلت منازلهم في تقرير موظف المحكمة على أنها أكواخ خشبية، خلافاً للحقيقة، كما أن أصحابها يملكون مقاهٍ شعبية يسترزقون منها جيلاً بعد جيل، وقد مرت عليهم القصص القصة تلو القصة.
المبالغ المادية ليست المشكلة الوحيدة، أمام عائلة لها في باطن البحر ذكريات كثيرة. فكيف للشاب الذي يعرّف عن نفسه بأنه «بحري»، ويصنّف الناس بين «بحريين» و«بريين»، أن يترك البحر؟ وكيف للزوجة التي ابتلع البحر زوجها منذ عشرين عاماً من دون أن يجدوا جثمانه أن تقبل بترك المكان من دون أمل بإمكان العودة، ولو للزيارة على الأقل؟ يبدو هذا بالنسبة لها فراقاً مستحيلاً: وداع للذاكرة والعائلة والمنزل. غربة في مدينة الأبنية والأبراج الحديثة، التي لن يحصل الصيادون على ما يكفي لشراء بضعة أمتار فيها. لماذا المفاوضة على المال إذاً؟ «فليرفض أهل الدالية الخروج منها بأي ثمن»، لم نقبل الخروج بدايةً، يقول الصياد البيروتي أباً عن جد. غير أن اكتشافهم بأنهم على أملاك خاصة غيَّر المقاييس، و«هنا لا نستطيع نحن وحدنا أن نحمي الأملاك العامة من البيع والشراء بدلاً من الدولة، لذلك اخترنا المفاوضة على شروطنا». وشروط عيتاني واضحة: «نحن من أهل بيروت، ولن يخرجونا منها، فليدفعوا تعويضات مساوية لسعر شقة في المدينة». هذا عن السكن، أما «عن باب رزقنا فلن يقفل إلا على جثثنا، نريد الميناء الذي وعدنا به، ونريد مكاناً لزوارقنا، ونريد الدخول الى بحرنا بحريّة».

مصادرة المنظر

بمعزلٍ عن «قطع الأرزاق»، تمهيداً لـ«قطع الأعناق»، فإن المشروع الذي سيتسلق صخرة الروشة، سيشرد رواد البحر الذين اعتادوا المجيء إليه، إلى الأسواق، لعلهم يتحولون إلى مجرد كائنات استهلاكية، كما يراد لهم أن يكونوا من وجهة نظر «دولة المستهلكين». قضية الدالية في جوهرها، هي كما يعبّر عنها «الصيادين»، تبقى قضية البحر العام الذي استفاق أبناؤه على مفاجأة مفادها أنهم يسكنون أملاكاً خاصة، وأن أصحاب الملك يريدون تحويله إلى مشروع سياحي ضخم، لا يشبه الخيمة الخشبية التي يستقبلون فيها زبائنهم العاديين، هؤلاء الذين لا يملكون سبيلا إلى المنتجعات والفنادق. فالمشروع سيصمم على قياس المنتجعات الضخمة، التي لا تأبه للبحر أو لصخوره، أو حتى لثروته السمكية. ما يريده المستثمرون هو المشهد المميز الذي سيزيد أرباحهم، على حساب السكان الأصليين والرواد الآتين من المدينة المسوّرة بالابنية الشاهقة.

متى أصابنا
المرض ننزل الى البحر فكيف يأتون لنا ببديل؟
هناك، من على طرف إحدى الصخور التي بنى فوقها أحد الصيادين كوخاً خشبياً، يعيش فيه منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، يخبر الرجل الذي تبدو معالم انتمائه للبحر في سمرة بشرته، عن «جريمة ترتكب بحق المكان». يشير يميناً، ثم يساراً، ثم يضيع بين الاتجاهين، فالاثنين خسرا معالمهما تحت الردم الذي لا ينفك المستثمرون يرمونه في المكان. «كنا نغطس تحت الماء لنستمتع بمشاهدة طبيعة أكثر من خلابة، الآن لم يعد تحت ماء البحر سوى الردم الذي حملته الأمواج من مكان تجميعه الى باطن البحر»، يتذمر الشاب، الذي خسر ملجأه تحت المياه، من أعمال الردم التي لم تعد خافية عن النظر، والتي باتت تغطي الصخور، وتؤدي إلى إقفال المغارات الصخرية التي اشتهرت بها منطقة الروشة.
الحسرة واضحة على وجهه الذي يغص بكلماته كلما نطق بها، فهو ينتظر قرار استبعاده من موطنه، لوضعه بين مجموعة من الجدران، التي لم يرد ان يسميها منزلاً، فمنزله الوحيد هو البحر. «البحر بوصلتنا، منه نسترزق، واعتدنا العيش بقربه، متى أصابنا المرض، ننزل الى البحر، فكيف يأتون لنا ببديل؟».

حقي في البحر

ما من بديل لهذا الشاطئ بالنسبة إلى هؤلاء البيروتيين الأصيلين. الأمر محسوم لكل صياد ستقفل بوجهه جميع المداخل نحو البحر. غير أن الدالية ليست حكراً على الصيادين، فهي تستقطب هواة السباحة والغطس، وحتى الأشخاص الذين لم يعد لهم بالقرب من البحر أي منفس هادئ إلا هذا المكان. أحد هؤلاء يقول إنه لن يدفع ليرة واحدة مقابل ما هو حق له... «وهذا البحر من حقي، ولا يجوز أن يملكه أشخاص محددون، فهو ملك عام». وقرب السور الذي يرتفع فوق أحلام الصيّادين، وقفت فتاة عشرينية، قررت بدورها ألا تقبل التحول إلى مستهلك يضاف إلى أرباح المتعدّين على الأملاك العامة البحرية ربحاً إضافياً. الشابة التي لم تتوقف عن التقاط الصور للبحر والصخور، بدت كأنها تحضر زوادة تفي وداعها للبحر الذي لطالما اعتادت اللجوء اليه، جزمت أنه لو أغلق هذا المكان أمامها، فإنها ستهاجر: «هذا البحر هو الأمر الوحيد الذي يدفعني للبقاء، فماذا أملك في هذه الدولة؟ لا شيء»!.