كان | كان إدوارد ليمونوف (1943 – 2020) كاتباً روسياً منفياً إلى الولايات المتحدة، شخصيةً إشكاليةً ومتناقضةً، هو الصبي الشرير المشاغب في الأدب السوفياتي. كانت حياة ليمونوف غريبة وغير عادية، ومثيرة للشفقة إلى حدٍّ ما. هذا ما يقوله لنا المخرج الروسي كيريل سيريبرينيكوف في فيلمه Limonov: The Ballad، المشارك في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان كان». الفيلم المقتبس عن رواية إيمانويل كارير (2011)، يأخذ كل الحقائق المتناقضة والتحوّلات في حياة ليمونوف، ليحكي قصة قد تلخّص تاريخ الاتحاد السوفياتي منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا. قدم المخرج الروسي ليمونوف كما يراه، ناشطاً، ثورياً، متأنّقاً، جانحاً، خادماً، مشرداً، مقاتلاً، محرّضاً سياسياً، وفي النهاية روائياً ناجحاً. الفيلم مثل معظم الأفلام الروسية (أفلام السِيَر بالتحديد) يمشي مثل قطار فائق السرعة، وفي حركة مستمرة. يدور محوره الرئيسي في حقبة السبعينيات التي قضاها ليمونوف إلى حد كبير في الولايات المتحدة، حيث بدأ بعيش حياة نجوم الروك، وزواجه من إيلينا (فيكتوريا ميروشنيشنكو)، التي يعرفها منذ زمن وجوده في موسكو، وتربطه بها علاقة عاطفية وجنسية تنتهي بطريقة عنيفة. في البداية، نلتقي بليمونوف (بن ويشوو ـــ بأداء يرشحه بجدارة إلى جائزة أفضل ممثل في المهرجان)، المولود في أوكرانيا – التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفياتي – ثم انتقاله إلى موسكو في التسعينيات، ومن هناك نعود إلى الستينيات عندما كان شاعراً ومحرّضاً، ومحاولات انتحاره، ونفيه إلى الولايات المتحدة وحياته في باريس، ثم عودته إلى روسيا، وسقوط جدار برلين، ولمّ شمل عائلته، وسجنه، ثم التحولات السياسية الراديكالية التي اتخذها في العقد الثاني من حياته. ينتهي الفيلم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتتلخّص بقية حياة ليمونوف، في بعض النصوص التي توضح كيف انجرف الرجل أيديولوجياً أكثر فأكثر.
لا يختلف الفيلم كثيراً من حيث البنية والنية والنهج عن أعمال سيريبرينيكوف السابقة. تتحرك الكاميرا دوماً في لقطات طويلة جنباً إلى جنب مع عرض مسرحي يقع في مكان ما بين ما يحصل وما يُستذكر. يوضح الفيلم أنّ ليمونوف مثير للاهتمام ليس لأنه كان مجنوناً، بل لأن جنونه هو جنون الجميع، جنون العصر الذي عاش فيه وشكّله. يتلاعب الفيلم بما هو حقيقي وخيالي طوال الوقت، فيأخذ المواقف إلى حدود معينة ثم يتراجع عنها ويظهر أنّها مختلَقة. بنية الفيلم السينمائية عظيمة فيها روح وثائقية، تمنحه درجة هائلة من المصداقية.
يركّز الفيلم على أن ليمونوف كاتب فاسق، مدمن على الكحول وإشكالي، ويقول هو بنفسه في أول الفيلم بأنه شيوعي مستقلّ، ويضيف أنّه لم يكن منشقاً، لكنه لم يكن كاتباً سوفياتياً أيضاً. يفضّل سيريبرينيكوف عدم القلق أو الخوض في مسار مؤسّس «الحزب البلشفي الوطني» ولا جانبه النضالي. صحيح أنّه حدّد بعض المواضيع السياسية، لكنّه لم يذكر مثلاً اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا مرة، رغم معارضة ليمونوف له بشكل علني ومباشر. ولا تظهر تأمّلات ليمونوف حول خطايا الرأسمالية، إلا بشكل عابر. ركّز الفيلم أكثر على دفاع ليمونوف عن الثقافة السوفياتية الأصلية، التي ستكون في النهاية العنصر الحاسم في شعره السياسي. في الفيلم، اختُزل كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي مرّت مرور الكرام، مثلما حُذف تأسيس الحزب البلشفي الوطني مع ألكسندر دوغين.
Limonov: The Ballad عبارة عن رحلة بين شوارع موسكو المزدحمة، وناطحات سحاب نيويورك، وأزقة باريس، إلى قلب سجون سيبيريا في النصف الثاني من القرن العشرين. رحلة تمر بسرعة بطريقة آسرة، لكن من المؤسف اختزال شخصية معقّدة وغامضة مثل إدوارد ليمونوف إلى صورة نمطيّة عن العبقري المجنون والفوضوي المتيّم بالحب.