تحتاج شانتال أكرمان (1950 ـــ 2015) إلى تعريف، فهنالك ما هو أكثر من أنها قدّمت فيلمها الأوّل عندما كانت في السابعة عشرة بعدما شاهدت فيلم «بيارو الأبله» (Pierrot le fou) لجان لوك غودار وتأثّرت به حدّ الجنون، ما دفعها إلى عالم السينما. المخرجة البلجيكية التي استحوذت على عقول الوسط النسوي وأثارت دهشة حلقات السينمائيين التجريبيين، ليست بشخصيتها بعيدة عن المناخ الذي سيطر على أعمالها، إنما متماهية معه بالمطلق. لقد توغّلت في هذا العالم حتى ذابت فيه، لم تتعامل مع السينما كمهنة بل كوظيفة تعبيرية تُحاكي واقعها وتضيء على حالاتها. مارست السينما كنمط حياة واستمدّت من نمط حياتها مواضيع للسينما. طوال حياتها، كانت مسكونة بهاجس التجريب، بدءاً من لغتها السينمائية الخارجة عن قوانين السرد المنتظم والتقليدي، أو بيعها لتذاكر أفلام بورنو لتؤمّن كلفة إنتاج أحد أفلامها وصولاً إلى موتها انتحاراً عام 2015 عن عمر يناهز الـ 65 سنة بعد مرور نصف قرن تقريباً على باكورتها السينمائية «أفجر مدينتي» التي ينتهي بمشهد صادم، في لقطةٍ أخيرة حيث تضع رأسها في الفرن قبل أن تشعله. عام 1971، انتقلت أكرمان إلى نيويورك لتتخصّص في السينما. عاشت تجربة المدينة بأدق تفاصيلها، إلى أبعد حدود، حيث وصفت نفسها آنذاك بأنها كانت أشبه بالمتشردة. لكن في ذلك التشرد، في تلك المدينة، استطاعت بعد مرور سنوات على إقامتها، أن تنتج «أخبار من الموطن/ البيت» News from home، أحد الأفلام المصنّفة ضمن كلاسيكيات سينما التجريب والأسلوب الحرّ، معتمدة مفهوم «كاميرا المؤلف» كما نظّر له روّاد الموجة الجديدة الفرنسية، مستمدة موضوعه من حياتها الخاصة، من يومياتها. والأهم أنها وجدت خلال تصويرها الفيلم، قاعدتها الشخصية في الإخراج: «أنهي اللقطة عندما تنقطع أنفاسي». لكنّ هنالك أمراً يجعل أنفاسك تنقطع فعلاً عندما تدركه، يتعلق بعالم أكرمان السينمائي. إن العلاقة الوطيدة التي تربطها مع والدتها، مدهشة وساحرة، حتى إنّها كانت مصدر إلهام لها لتستمد منها مواضيع أفلامٍ عدّة، أبرزها فيلمها الطويل، والأكثر شهرة News from home.
في لقطات طويلة تُثبِّت المزاج الواقعي، كادر كاميرا كبير يصوّر مظاهر المدينة وصوت مونوتوني لا حضور عينيّ لصاحبته، يعرض هذا الفيلم من خلال تآلف هذه العناصر، قصة تغيب عنها الأحداث، لا وجود لممثل فيها، مليئة بانطباعات مرهون تلقيها بالمشاهد. مراسلات بريدية بين المخرجة ووالدتها أثناء تواجدها في نيويورك، في فترة غيابها الفعليّ عن موطنها، في عملٍ حقيقي جسّد بنباهة ودقّة حالتها كفردٍ مسلوب، يبتلعه الغياب، تعيش المنفى في مهجرها النيويوركي ولا يربطها مع العالم الخارجي سوى صوت والدتها.
في مزيجٍ ما بين التوثيق والتصوير في إطار الفنّي، صوّرت أكرمان News From Home عام 1977 وصنّفه بعض النقاد كوثائقي سابق لعصره. الإقرار بأنه من جنس الوثائقيات مع الإغفال التام للجانب الفنّي، والقصديّة الفنية منه، يُعتبر انتهاكاً صريحاً لموهبة أكرمان وعدم إنصاف متعمّد لفيلمها، ما يشكّل اختزالاً لا تستحقّه. في جميع الأحوال، تجهد أكرمان في فيلمها، فور وصولها إلى نيويورك، لإبراز محاولتها التأقلم في هذه المدينة وكيفية تفاعلها مع العالم الخارجي برمزية تَنصّ على اختفائها النهائي من الواجهة. هذا هو الاستنتاج المؤكد الوحيد الذي يمكن حسمُه بعد مشاهدة الفيلم. على العموم، يرتكز التوثيق إلى إبراز جوانب الحياة كما هي، ومهمة كهذه تتطلب في الكثير من الأحيان موضوعية واحتراماً لتموضع الأشياء كما هي عليه، إلا أن أكرمان لم تأخذ هذا المسار، بل طوّعت مفهوم المدينة حسب نيتها في تجسيد حالتها كإنسانة يتآكلها الاغتراب. نيويورك المدينة الصاخبة، المكتظّة بالسكان، مدينة المباني العالية والأضواء الفاقعة كما اعتدنا على رؤيتها، وكما طُبعت صورتها النمطية في أذهاننا، مختلفة هذه المرة بقدر تجربة المخرجة الفريدة. هنا، تم تصوير نيويورك بشكلٍ غير كلاسيكي: تأخذنا أكرمان الى الشوارع الضيقة والطرقات الفرعية ومحطات المترو، ومواقف السيارات. في هذا الجوّ المُعتِم والرؤية الضبابية، إحالة إلى حالة أكرمان النفسية وتكريس إبداعي لإظهار وجدانها المأزوم. هكذا نتسمّر مشدوهين، بحالةٍ شبيهة بدهشتها السلبية من المدينة، متأملين من خلال عدستها هذا المكان «الغريب» بدون إشارةٍ إلى موقع، أو التركيز على هدف. فقط أشياء جامدة مثل أبنية شاهقة، حركة بطيئة مثل سيارات، وأصوات بعيدة. بعد مرور حوالى أربع دقائق من بداية الفيلم، تأتي رسالة من والدتها، لتكسر رتابة المشهد وفوضوية أشيائه، ولتكون الحركة الداخلية الوحيدة التي تؤلف خطاً سردياً، يجعلنا نقتفي آثار المزاج الذي يعتري المُخرجة، محنتها، والخيط الأساسي لفهم هذا التصوير المحبط للمدينة. اتخذت المخرجة خياراً غير مألوفٍ في تصويرها للأزقة والمناظر بألوان قريبة للصحراء. فقد نسبت إلى نيويورك ألواناً ترابية في بعض اللقطات ونارية في البعض الآخر. أمر يدفع بالمشاهد إلى الغوص في ضوضاء السفر. نيويورك شانتال أكرمان موحشة، وطأتها بشعة، ووحدتها قاسية. وفي خضم هذه الحالة الوجودية، تسوّغ أكرمان أسلوبها السينمائي متحدية المعايير الجمالية المعتادة من دون أن تتردد في إظهار الشواذ، ولو تطلب الأمر بعض المبالغة. نجدها مثلاً، في سينماتوغرافيتها، تختار اللون الأحمر وتجعله مسيطراً (الأحمر الذي يُقترن استعماله بالعنف والسرعة بحسب الإطار والحالة) أو كثرة وجود النفايات، وحتى الفوضى والزحمة وتعالي الأصوات بدون «فلترتها». كما أنها تحيل هذا الأمر إلى آخر، من خلال عينَي الشخصية المسافرة، وإبراز تلك الجوانب المخبأة بقشور اللوحة النيويوركية المعتادة لتخلق منها لوحة جديدة ورؤية تجسد واقعه.
برجاءٍ يترنّح بين الشوق والحزن، تكتب والدة شانتال أكرمان العبارات التالية: «لا تكفّي عن الكتابة»، «أنا أعيش من أجل رسائلك»، «أخبريني عن نيويورك؟» لتقرأها المخرجة بنبرة مونوتونية، وصوتٍ خافت يفضح روتين حياتها الثقيل. وفي حين أن شوق والدتها لها هو الدافع الأساسي لهذه العبارات، تبتعد أكرمان عن الكلام، وتحجب الأجوبة عن المشاهد. بدلاً من ذلك تركّز على أعداد المارّة ضمن إطار الصورة الواحدة. فيتبدل الناس داخل المشهد. يدخلونه ويتركونه كعابري طريق أو مسافرين، كأنها استعانت بصورة شعرية مجازية، لترسم حالتها العاجزة ليس فقط عن التأقلم في المدينة، بل أيضاً عن تواصلها مع والدتها، وهو بشكلٍ أو بآخر، إعلاء من موقع الأخيرة، ووضعها بمثابة المنقذة من كل هذا الموت البطيء.
تقرأ المخرجة رسائل والدتها بنبرة مونوتونية، وصوتٍ خافت يفضح روتين حياتها الثقيل


تدفع أكرمان فكرة الغياب الى أقصى الحدود. فالمُشاهد يسمع شانتال ولا يراها. يتخيّل والدتها والشخصيات المذكورة من دون الحصول على لمحة لها. في فيلم تبلغ مدته ساعة ونصف ساعة ـــ وقت كافٍ لإبراز النص ــــ تُسرع شانتال أكرمان في قراءة هذه الرسائل من دون أن يستوقفها شيء. وعندما تبادر المُخرجة برسائلها، يحدث تغيّر في الوتيرة، فتصبح الجُمل باردة وبليدة، تجسيداً لعدم قدرتها على التجاوب، وإشارة ضمنية إلى عنوان الفيلم، كأنّ «الأخبار الموطن/ المنزل» ولو أتت على شاكلة أسئلة، إلا أنها تتضمن بحد ذاتها المعنى، كون أكرمان تتخبّط في العدم، بعيدة وسع مدينة شاسعة عن جغرافيا الاستقرار، ولا شيء يبقيها على قيد الحياة، أو يعطيها ديناميكية، أو حركة، سوى رسائل والدتها الواردة. على هذا المنوال، تبقى نبرة الفيلم مضبوطة، في عرضٍ خلّاق لا يقع في الرتابة، إلى حدّ أن يمتزج صوت أكرمان بأصوات المدينة، لتطغى على صوتها، تعلو عليها، كأنها استسلمت. وهذا التلاشي للصوت، ليس فقط خضوعها على حساب المدينة، بل انتصار للعالم الخارجي عليها، واضمحلال الوسيط، بالأحرى الرابط الوحيد، الذي يصلها بوالدتها، ويصل المشاهدَ بالمخرجة وبفيلمها، ما يدلّ على تصدّع الذات من منسوب فائض من النوستالجيا، أو من غياب كبير لا يحتمل.
شانتال أكرمان اختارت الصمت. وأمام هذا الصمت الكلامي الناجم عن الغياب والاعتكاف عن التجاوب، على المُشاهِد التبحّر في المَشاهد التي صوّرتها المخرجة وترجمتها لفهم اللغة الكامنة فيها وليس فقط الغرق في المزاج الميلانكولي الطاغي. طوال الفيلم، لم تستعمل المخرجة صيغة الـ «أنا»، ولم تتحدث عن مهجرها، وكل ما لديها هو ملكنا: صوت رقيق يافع يتلو رسائل متبادلة بين أمٍّ قلقة وابنة بعيدة تتخبّط في مدينة صاخبة، حركة متوترة لكنها في حقيقة الأمر مرآة تعكس داخلها، كأنها كاميرتها الخفيّة الخاصة، تصوّر ما تعجز عن صوغه، بنفسها، في كلمات.

* News from home متوافر على MUBI



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا