الازدحام في دمشق لم يعد له قواعد واضحة! بعد ظهر أوّل من أمس ومن دون سابق مناسبة صار الوصول من دمشق القديمة، إلى آخر أوتوستراد المزّة، يحتاج إلى تحايل سائق تاكسي أفنى عمره يعمل في شوارع الشام. الأفضل هو الهروب من «باب مصلّى» باتجاه «ساحة الأمويين». وهو ما سيحصل. لكن إحدى الطرق الفرعية التي نسلكها ستحيلنا إلى «حي السويقة» القديم. الاسم سيذكّرنا على الفور بحي «باب السويقة» في تونس. هناك وُلد المخرج التونسي الراحل شوقي الماجري (1961 ــ 2019). وما يأخذنا إلى مسقط رأسه أنّنا نقطع الازدحام للوصول إلى مجلس عزائه. عزاء معنوي دعت إليه مديرة أعماله السابقة تيما إسلام ومجموعة من زملائه الفنانين السوريين على رأسهم سلافة معمار. لن يكون غريباً على التونسي العروبي أن يولع قلبه بدمشق، ويسكنها وقتاً طويلاً، ويصاب بعشقها، فهي التي منحته الفرصة الأولى في «تاج من شوك» على يد النجم أيمن زيدان، وخلقت له مجداً لا يقاس. رغم أحلام السينما العريضة، لكن المنفذ الوحيد للرسم بالصورة كان من خلال التلفزيون ولعلّه الوحيد الذي خلق تمايزاً عن غيره، بما يملكه من تشكيل، وهدوء، وترجمة بصرية ترفع مزاج الورق. ولأنّ الأماكن محمّلة بالدلالات، سيلمع في مخيّلتنا ونحن ندخل نفق كفر سوسة المزيّن بإضاءة ملوّنة طقس عيد الميلاد، ونتذكر لقاءنا الأوّل مع الماجري في مكتب المنتجة اللبنانية رولا تلج في منطقة الصيفي في بيروت، يوم كانت تحتفل بعيد ميلاده بمن حضر. لعلّ السيدة الأنيقة من أكثر الناس الذين آمنوا بالرجل فنياً وإنسانياً. أنجزا معاً واحداً من الأعمال المهمة التي ظلمها شرط العرض وهو «حلاوة الروح» (كتابة رافي وهبي)، لذا لن يكون غريباً أن تطير تلج إلى تونس لتحضر مراسم الدفن وتتلقى العزاء بمكانة توازي عائلته تماماً.
عند أوّل المزة، سنستعيد آخر دردشة لنا معه في الحي ذاته، وتحديداً في منطقة «كيوان» حيث كانت كاميراته تمنح ليل دمشق المثقل بذكريات الحرب شيئاً من الحراك المختلف عن سنوات العتمة! كان المنجز لصالح مسلسله الأخير «دقيقة صمت» (تأليف سامر رضوان). يومها لم ينفع تدخّل نجم بحجم عابد فهد، ولا حتى معرفتنا القديمة به ليدلي بتصريح إعلامي رسمي. سيروي أثناء تداخل الأحاديث تفاصيل المرّة الأولى التي تعرّف فيها إلى طعم الألم الملوّث بالدم عندما كان يشتري خبزاً فأصابته شظية في قدمة عشية اندلاع مواجهات بين النقابات والحكومة أيّام حكم الرئيس الحبيب بورقيبة. عندها بدأ بتلمّس الدروب الأولى لنظرية التمرّد على السلطة بذوق فني مدهش. سينهي الموضوع بجملة مقتنعة: «لا أجيد سوى لغة الصورة، لذلك لا أعرف الحديث عن عمل أصوّره، المفترض أن تحكي صورته عنّي بعدما تراه الناس».
قبيل الصالة بقليل، تفوح رائحة القهوة العربية. ولدى السوريين كما غالبية العرب، ترتبط هذه الرائحة بـ «اللازمة» أو «التمساية» كما تسمّى باللهجة الشامية الدارجة، أي واجب تقديم العزاء بميّت. تماماً كما يرتبط عود الآس بالمقابر. الآس والقهوة العربية، والذكريات كلّها أصبحت جاهزة، والمعزّين حضروا كل ما ينقص المشهد ليكون «مهندس الصورة» بين المعزين لعل الميت شخص آخر. تلك هذيانات كانت تسبق كل من يدخل الصالة.
على الباب تقف سلافة معمار بسوادها المهيب كأنها كلّ أهل الفقيد هنا. ترافقها كوكبة من الممثلين من بينهم عبير شمس الدين، وعارف الطويل، وتولاي هارون، وتولين البكري، وسوسن أبو عفار. سيحضر غسان مسعود وبسام كوسا ودريد لحام وفادي صبيح وسيف الدين السبيعي وغيرهم. وحده الماجري يغيب عن هذه اللمة، فقد قرّر أن يخذل الشام وتونس معاً ويمنح فرصة الرحيل الأخير لمصر البهية. لكن ماذا تفعل كلّ تلك الكاميرات العشوائية على المدخل؟ كم هو مهين بحق الإعلام أن يتسوّل تصريحاً من خيمة عزاء؟ ربّما كان الأكثر إنصافاً بحق أصحاب كل تلك الكاميرات ما قاله بسّام كوسا بصوت عال: «أنا هنا لأقدّم واجب العزاء وليس لإجراء لقاءات».
ربّما كان منطقياً أن يستبدل المقرئ بشاعر يكرّر ما قاله محمود درويش مرّة: «الموت لا يوجع الموتى... الموت يوجع الأحياء». ومن ثم يردف: «فإنّ أسباب الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة».