الكوميديا السورية في تهاو مستمر! الأمر لم يعد سرّاً، ولا مهرب ولو بمساحة خرم إبرة لجدل حوله، طالما أنّ المنجز مطروح للتداول العام والشمس لا تختبئ خلف غربال. النتائج لا تبدد كل الشكوك في مدى الخيبة الحاصلة! كان يفترض أن نشاهد أربعة أعمال كوميدية هذا الموسم، لكنّ الامتيازات وصلت باكراً، قبل سطوع الهلال الرمضاني. فشل عملان في الحضور على الشاشات العربية أوّلهما «حركات بنات» (كتابة سعيد الحناوي، وإخراج سليمان معروف، وإنتاج شركة «شقرة»، بطولة: رنا الأبيض، جيني إسبر، دانا جبر، ليليا الأطرش). العمل أصلاً اشتغل بمنطق «البسطة» بمعنى أن الهم الأكبر كان تجميع ساعات تلفزيونية، بأقل تكاليف ممكنة، فإذا به يلاقي مصيره المتوقّع في الأدراج. كذلك هي الحال مع مسلسل «أحلى الأيام» (جزء ثالث من «أيام الدراسة» ـــ إخراج سيف الشيخ نجيب وكتابة طلال مارديني الذي يتشارك البطولة مع معتصم النهار، ويامن حجلي، وخالد حيدر، ووائل زيدان، ومديحة كنيفاتي، ومازن عبّاس). رغم المحاولات الإخراجية لصياغته بأسلوب تشويقي، إلا أن الجهة المنتجة صفّته على رفوف مكاتبها، علماً بأنه تجربتها الأولى، ولا نعرف إن كانت ستكررها باعتبار أن عدم البيع يعني خسارة مالية فادحة!أما المسلسلان اللذان رأيا النور وهما منتميان إلى المدرسة نفسها، فهما أيضاً واقعياً ركنا في الأدراج، باعتبار أنهما لم يباعا لأي محطة فضائية سوى المحطات المرتبطة بالجهات الإنتاجية. بمعنى أوضح، لم يعرض «كونتاك» (فكرة وإعداد رانية الجبّان وشادي كيوان وإخراج حسام الرنتيسي وإنتاج «إيمار الشام») سوى على قناة «لنا» المملوكة للجهّة الإنتاجية نفسها، بينما يعرض «بقعة ضوء» (مجموعة كتّاب وسيف الشيخ نجيب إنتاج «سما الفن»/ سوريا الدولية سابقاً) على قناة «سما» التابعة للمؤسسة الإعلامية نفسها، إضافة إل عروض شبه مجانية لقنوات من نفس الفصيل مثل «سوريا دراما».
المفارقة بأن المسلسلين يتنافسان بالرداءة والاجترار المطلق لكركترات استهلكتها الدراما السورية في مجموعة عديدة من المطارح! وفي محاولة التفنيد النقدي للخذلان الكوميدي الصادم هذا الموسم، يمكن القول بأنّ «إيمار الشام» كررت فشلها الذريع بعد هدر مالها على تجربة «الواق واق» (ممدوح حمادة والليث حجو) العام الماضي. أرادت أن تبني مسلسلاً كوميدياً شاباً بثلاث ليرات كما يقال في العامية السورية كناية عن الميزانية المتواضعة! هكذا، استعانت بكتّاب شباب بعضهم طرح أفكاراً رشيقة يمكن التعاطي والبناء عليها، لكنّ الأفكار تبقى كالنوايا لا يمكن أخذها على محمل الجد إلا بعد المعالجة. النيّة عند فريق «كونتاك» (بطولة أمل عرفة، محمد حداقي، محمد زرزور، شادي الصفدي، غادة بشور، حسام تحسين بيك) تقديم لوحات متصلة منفصلة، بصيغة حداثية تطرح كوميديا ناقدة، تجرّب اللعب بين زاويتين، واحدة لها علاقة بمفرزات الحرب، والأخرى تلتقط سكّة التعافي التي يفترض أن تسير عليها البلاد، على أن تصوغ منهما مفارقات درامية، صالحة لأن تكون مادة كوميدية. يتكئ العمل على مجموعة أنماط، وكركتيرات ثابتة، مع تحوّل للحدث بشكل مستمر، ومحاولة تدوير رشيق للحكايات المقدّمة. لكن ما رمي على الشاشة كان عبارة عن توريطة حقيقية لخريجي المعهد العالي للفنون المسرحية الجديدين رسل الحسين، ومحمد الحمصي من خلال منحهما أدواراً طويلة في مختبر هشّ. تبدو الحسين كأنها التقطت الجانب المبالغ فيه من كوميديا الكاركتر، وقدّمت أسهل لهجة سورية ممكنة وهي الحلبية بطريقة فاقعة منفّرة مستفزة في بعض الأماكن. كذلك هي حال الحمصي التائه من دون بوصلة ترشده ماذا يفعل، والغائب تماماً عن أي ضبط ووعي لبناء وهدم متلاحق. ويعيد جمال العلي نفسه تماماً كما قدّم في «بقعة ضوء» أوّل مرة ثم في ستين حلقة من «ضيعة ضايعة» (حجو وحمادة) «الهمّلالي» يظهر في «كونتاك». أما محمد حداقي فيعيد ما قدّمه هو وزملاؤه في «الخربة» (لنفس الكاتب والمخرج). كذلك يطل شادي الصفدي ومحمد زرزور في ثنائي مخصص لصناعة مترفة بالملل، والأداء الباهت، بسبب الاعتماد المطلق على طريقة المسرح التجاري بنوعيته المبتذلة، بمعنى أن يلعب الممثل على لون جواربه ولدغه بالحروف وحركاته البرّانية في سياق غير مدروس، رغبةً منه في إضحاك المشاهد؟! الصيغة ذاتها المتعلقة باللدغ بالحروف والمبالغة تسيطر بالمطلق على شغل محمد خير الجرّاح وجيني إسبر! المسلسل الذي يستعيد من ذاكرة التلفزيوني السوري، لا ينجز على المستوى الإخراجي سوى كاميرا تلاحق الممثلين، من دون أي تدّخل، أو مجرّد طموح في الاجتهاد، وهو العمود الفقري لمثل هذه النوعية من الأعمال. تجرّب إحدى اللوحات صوغ منتهى الابتكار بالصعود على أكتاف جماهيرية «الهيبة» (هوزا عكو وباسم السلكا سامر البرقاوي) بفكرة متآكلة من كثرة الاستخدام، فلا تنجز سوى لوحة يلعب بطولتها باستسهال واضح جوان خضر. عن مسّلح أراد أن يعود لـ «حضن الوطن» بعد وصية والده لحظة موته، فأحالته البيروقراطية والروتين إلى عمل إرهابي يدّمر فيه «فرع العودة إلى حضن الوطن». أما مربط الفرس، فتمثّل في الحلقة 23 وتحديداً في لوحة «يا غافل إلك الله» التي تسخر من تمثيلات ضرب الكيميائي، وتطال فريق «الخوذ البيض» وتحقيقهم الأوسكار. طبعاً لم يعد يختلف عاقلان على تمثيلية الكيميائي التي حدثت قبل تحرير دوما، خاصة أن أطباء من أهل البلدة الريفية قدّموا شهاداتهم الواضحة في لاهاي أمام «المحكمة الدولية»، حسبما أفادوا سابقاً لـ «الأخبار» وأقرّوا بأن كل ما حصل في تلك المسرحية كان مفبركاً، وأن دوما لم تقصف بالكيميايي، فيما هرّبت اسرائيل فريق «الخوذ البيض» علناً. يعني أقل ما يمكن أن يتم هو تبني اللوحة التي طالتها «شبيحة» المعارضة بسيل من الشتائم، وهو ما دفع النجمة أمل عرفة للاعتذار على صفحتها الشخصية على الفايسبوك! ربما كان الأولى لها أن تعتذر من ذائقتنا الفنية ونحن نراها في عمل متهالك على المستويات كافة. وحدها الشارة تنذر بملمح إبداع!
من جانبه، لم يكن «بقعة ضوء» في حال أفضل! الشباب تعاطوا مع الموضوع بمنطق الاسترزاق! المسلسل سُلق على نار حامية، والكوميديا تحديداً تحتاج إلى مزاج هادئ أي أنه جافى منذ لحظته الأولى القاعدة الأساسية للنجاح، فيما هرعت الرقابة لحصار المشروع ورفضت 5 لوحات من العرض كأنها الضربة القاضية. وزاد الطين بلّة منطق ارتجالي في الشغل، له علاقة بإعادة تصنيع النكتة كما يليق بالمدركات الحسّية لمعالي الرقيب. الشرطة ممنوعة من التناول في هذا العمل بأمر الحكومة، وهو سلك متخم بالمفاصل الغنية القابلة للّعب الكوميدي. التصوير في الدوائر الرسمية ممنوع أيضاً بأمر الحكومة، وهي المتضررة من النقد. لذا رأينا لوكيشنات غير مقنعة، وحكايات معتمة من ناحية لمعة الكوميديا، تدور حول المولّد والكهرباء المقطوعة، والمعاملة التي تكلّف أكثر على نور الموّلد. وصفة معدّة خصيصاً لمزيد من الملل. عموماً كلّ شيء تراجع في سوريا فأرخى بظلاله بشكل ظاهر على ترنّح الطرافة على الشاشة. أيمن رضا لا يشتغل إلا على مزاجه، وهو أحد مؤسسي هذا المشروع، لكن مزاجه غائب منذ زمن في هذا العمل تحديداً. هكذا، نراه في لوحة واحدة مع شكران مرتجى ومحمد حداقي وآخرين يعيدون مضغ أنفسهم في واسطة نقل عامة. أما «القفشة» فهي أن تستبدل الخمسين ليرة بقطعة بسكويت من السائق، يا للدهشة؟!
فعلياً تلاشت خلال السنوات الماضية المتانة والسوية اللائقة في غالبية النصوص الكوميدية المطروحة للجهات المنتجة. رغم أن النوع الناقد الساخر نال حصّة الأسد مما قدّمته الدراما السورية، بدءاً من التأسيس الصلب في حقبة ستينيات القرن الماضي وما حققه «مسرح الشوك» الذي أطلقه الراحل عمر حجو (193ـــ /2015) من حضور عربي لافت، انتزع شهادات من نقّاد عرب بهامش واسع من الحرية والديمقراطية لبلد مثل سوريا في ذلك الوقت! ربما لو عاد الجيل الأصيل ليشاهد هذه النتائج المحزنة التي ظهرت هذا العام لصرخ بصوت واحد: أعيدونا إلى قبورنا! الحل واضح وجلّي: انفتاح رقابي بالدرجة الأولى، وتهميش عال لجيل أخذ نصيبه من الفرص حتى خرج من عيون المشاهدين، ومغامرة بأفكار خلاقة، وجيل جديد بالمطلق على مستوى الكتّاب والمخرجين والممثلين!

* «كونتاك»: 20:00 على قناة «لنا»
* «بقعة ضوء»: 20:00 على قناة «سما»