ورد في الـ«إيكونوميست» أن المناطق الفقيرة التي ضربها الزلزال في تركيا تعرّضت لأضرار بمقدار يزيد عن 3.5 أضعاف مقارنة بالمناطق الأخرى التي ضربها الزلزال. في هذه الإشارة ما هو واضح بأن نوعية العمل والمعايير المُطبّقة اختلفت بين المناطق. إذ جاءت على شكل مشاريع ذات قيمة منخفضة، مقابل مشاريع ذات قيم أعلى. هذه المسألة ليست محصورة بتركيا، بل ربما في الكثير من البلدان حيث يخصّص القانون للدفاع عن الأثرياء فقط، وتكون الهيئات الناظمة متشدّدة في المشاريع التي تكون فيها المنفعة الخاصة أكبر. بحسب رئيس مكتب شركة الإنشاءات اليابانية «Hazama Ando Corporation» في تركيا، موريواكي يوشينوري، فإن الحكومات التركية المتعاقبة أصدرت برامج عفو للشركات والأفراد الذين ينتهكون قوانين البناء طالما أنهم يدفعون غرامة. الأمر نفسه حصل في لبنان، بالنسبة إلى ما سُمّي «طابق المر»، وفترة ما قبل انفجار الأزمة، كان هناك كلام عن «طابق الميقاتي» الذي كان الهدف منها استعمال الطوابق الإضافية كأداة لتمويل الخزينة وتقليص عجزها من خلال السماح بزيادة طوابق على أبنية قائمة. وهذا يضاف إلى العشوائيات التي نشأت في ظروف الحروب الأهلية وما تلاها من حمايات وزّعت من قبل قوى نافذة في السلطة. أصلاً من النادر أن يصدر قانون للموازنة العامة ليس فيه تسويات لمخالفات بناء أو مخالفات تعدٍّ إلى جانب التهرّب من الضرائب وسواها من التعديات على المال العام والأملاك العامة. كل هذا العرض يثير الآتي: «من يتحكّم بالأبنية المشيّدة في لبنان: جني الأرباح التجارية، أم الهيكل التنظيمي الرسمي والخاص؟».


يتطرق البنك الدولي إلى هذه المسألة باعتبارها محسومة وفقاً لتصنيفاته بين دول متقدمة ودول نامية. ففي هذه الأخيرة، يشير إلى «عقبات رئيسية تقف أمام الحدّ من المخاطر، وتحسين جودة البناء في الدول النامية. من هذه العوامل الفشل في معالجة ثقافة البناء المحليّة وتحسينها». ثقافة البناء بالمعنى الذي يشير إليه البنك، هي ثقافة الربح وكبح تدخّل الدولة في الاقتصاد. حتى في هذه المسألة، يوارب البنك الدولي عندما يتحدّث عن «أن الفشل في إرساء شرعية العملية التنظيمية من خلال فتح المجال أمام تطوير المعايير وتطوير عمليات تطبيقها، يعيق تحسين جودة البناء»، إذ إنه يتحدث عن العملية التنظيمية كما لو أنها مسألة معزولة عن وجود الدولة وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية ولا سيما سياسة السكن والحقّ الأدنى فيه. ويكون البنك أوضح عندما يلفت إلى أن «عدم القدرة على الاستثمار والدعم المالي لتطبيق المعايير يسهم أيضاً في رداءة جودة البناء في مواجهة الكوارث الطبيعية»، إذ يبدو كما لو أن الدولة التي يطالب بخصخصة أنشطتها، ليست عادلة أو هادفة في عملية التوزيع.
أياً يكن الحال، فإن النتائج التي يشير إليها البنك الدولي مترجمة في لبنان بشكل واضح؛ السياسات التنظيمية للقطاع العقاري والإنشائي ليست مبنية على معايير متطورة، بل إن إجراءات التنفيذ هي غالباً ما تكون بيد الطرف الذي لا يهتم سوى بهوامش الأرباح. فعلى سبيل المثال، إن التنظيم المدني الذي يفترض فيه أن يخصّص الأراضي بشكل متناسب مع الحاجات الاجتماعية والاقتصادية، يصنّف الأراضي ويمنح تراخيص البناء عليها، بالاستناد إلى قرارات تتأثّر بالضغوطات السياسية والتجارية.
وفي البلدان التي تعيش على الفوالق الزلزالية، يفترض أن تكون القوانين واضحة لجهة إجبار المشاريع الإنشائية على تطبيق معايير مضادّة للزلازل، لكن المسألة ليست بالمعايير كما يقول البنك الدولي، بل تكمن في التطبيق والرقابة. بحسب المتخصّصة في التنظيم المدني بترا سماحة، فإن الدولة في لبنان معنية بشكل كبير في عملية إنشاء المباني، وهو أمر يظهر بوضوح من خلال إجراءات الترخيص للبناء التي تطبق في التنظيم المدني ونقابة المهندسين المنخرطَين بشكل عميق وواضح في هذه العملية، بالاستناد إلى القوانين المرعية ومنها قانون البناء. لكن في الواقع اللبناني، لا ينحصر الأمر بوجود قوانين ومعايير، إذ إنه يمكن الالتفاف على التطبيق أو إحداث قنوات رديفة له لا تخضع لهذه المعايير. فعلى سبيل المثال، أتيح صدور تراخيص بناء تصل إلى مساحة 150 متراً من دون تراخيص فعلية خاضعة للقوانين والمعايير المذكورة. وفي أحيان أخرى، الأمر لا يتعلق بصدور أي ترخيص من أي جهة أصلاً، فيتم البناء بشكل عشوائي وبحماية أيضاً.
الملاحظ أن تطبيق القوانين في المشاريع الكبرى والمرتفعة القيمة تكون نسبته مرتفعة لأن مردود الربح المتوقع منه، مبني على ترويج معايير السلامة العامة. فهذه المشاريع تشارك فيها شركات ومكاتب هندسية كبرى، تهتم بمراعاة القوانين والأنظمة لأنها تعتمد على سمعتها للعمل في دول أجنبية أيضاً. المشكلة تحدث في المشاريع «المحلية» الصغيرة. ففي هذه المشاريع لا تكون العلاقة دائماً كما هي عليه مع المشاريع الكبيرة بل تكون معقّدة أكثر، إذ يكون في بعض الأحيان المقاول هو المالك، وتُصبح علاقته مختلفة مع المهندس أو الاستشاري، وفي هذه الحالة تُصبح القوّة في يده كونه المموّل. مخالفة القوانين في هذه الحالة يكون الدافع خلفها هو الربحية، أي خفض الأكلاف حتى ولو كان هذا الأمر على حساب سلامة السكان.