كارتيل الدواء هو واحد من أقوى الكارتيلات في لبنان. في السنة الماضية باعت شركات الاستيراد أدوية بقيمة 1.5 مليار دولار. حقّقت هي وأصحاب الصيادلة أرباحاً لا تقلّ عن 500 مليون دولار سدّدها المستهلكون من جيوبهم. حاول وزير الصحة السابق حمد حسن، كما حاول بعض الوزراء السابقين أيضاً، كسر هذه الاحتكارات، إنما من دون طائل. محاولته جاءت من خلال خفض ما يُسمّى الجعالات (هوامش الربح من المبيعات)، إلا أن الشركات تمكّنت من دفع الصيادلة إلى الوقوف بوجه الوزير. الصيادلة خاضوا المعركة عن المستوردين وربحوا بعدما تراجع الوزير حسن عن الخفوضات على الجعالات.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وفي مناسبة رفع الدعم، قرّر الوزير أن يسعّر دولار الأدوية العامة بـ12 ألف ليرة، ففرضت الشركات المستوردة حظراً على توزيع الأدوية في السوق لأن هذه الأسعار لم تتناسب مع جشعها في الربح. وعندما ظهر أنه يمكن للمصنّعين المحليين أن ينتجوا أكثر من 60% من الأدوية المستوردة (الإحصاء على أساس الأسماء العلمية للأدوية وليس على أساس الأسماء التجارية)، حصلوا على مساعدة من قوى أخرى في المنظومة: مصرف لبنان الذي أوقف الدعم بعد تعهّده بتقديمه لرئيس الجمهورية وللوزير حمد حسن أيضاً. ولم يكتف بذلك، بل منح بعض المستوردين، تسلّلاً، بعض فواتيرهم العالقة تاركاً المصنّعين المحليين الذين يصنّعون كميات الأدوية بناءً على طلب محلي وبالاتفاق مع صاحب الاسم التجاري في الخارج، يعلقون على خطّ التماس بين الداخل والخارج لأنه لا يدفع الفواتير.
الشركات المستوردة للدواء هي الأقوى بعد كارتيل النفط والغاز والمصارف، لأنها تقع في مرتبة عليا ضمن بنية المنظومة القائمة. أرباحها كبيرة وقدرتها على شراء النفوذ كبيرة. والقانون أيضاً يقف إلى جانبها لأنها تستورد سلعة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها، وبالتالي لا يمكن إجبارها على التصريح بأنها شركات بربح مضمون ومرتفع طوال العقود الماضية. فأرباحها ثابتة بجعالات أقلّها 18% وأقصاها 24%، وهي كانت مضمونة أيام تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، أي أن الشركات المستوردة لم يكن لديها مخاطر في تقلّبات العملة، ولا في المبيع في سوق نهمة تقتات على الترويج. أرباحها كانت مضمونة إلى درجة أن نسب التركّز تُعدّ مرتفعة في هذا القطاع الحيوي. ثلاثة من المستوردين يسيطرون على 45% من مبيعات الدواء في لبنان بحصّة سوقية تبلغ 618 مليون دولار ونحو 61 مليون حبّة دواء. أما أكبر عشرة من المستوردين فهم يستحوذون على 78% من مبيعات سوق الأدوية، أو ما قيمته مليار دولار. يتصدّر هذه اللائحة مرساكو، وتليها فتال وسادكو...
هذه الشركات مرتبطة بشبكة واسعة من أصحاب المستودعات والمكاتب العلمية والصيادلة. كلّهم يعملون بإمرتها. لذا، فإن قدرتها على الترويج لأي دواء كبيرة جداً. الأطباء يتهافتون لوصف أدوية الشركات التي يتعاملون معها. قبل الانهيار كان الأطباء يحصلون على نسب مئوية من المبيعات، بالإضافة إلى عقود سفر بعنوان حضور ندوات علمية ومحاضرات، بينما الواقع أنها كانت إجازات بعضها عائلي وكلّها مدفوعة الثمن.
حالياً، السؤال يكمن في ما إذا كان وزير الصحة فراس الأبيض راغباً في تفكيك هذا الاحتكار أو تحجيمه لمنعه من التحكّم بمفاصل سلعة حيوية بالنسبة إلى المقيمين في لبنان؟ هل سيكون بإمكان الوزير المستقبلي تقديم الدعم، أي دعم، لمصانع الأدوية المحلية ومساعدتها على تطوير خطوط إنتاجها؟ هل سيكون المستهلك والمريض أولوية لديه؟ هل سيعمل على دراسة حاجات السوق ليصبح الاستيراد متوافقاً مع الحاجات، وتصبح القدرات الإنتاجية المحلية كافية للتصدير؟ ثمّة الكثير من الأسئلة التي لم يتمكن أي وزير من تقديم إجابات شافية عليها، إن رغب بذلك أصلاً، ولا يوجد أيضاً ما يدفع للتعويل على الوزير الجديد الذي يعمل حالياً على فكفكة فريق عمل الوزارة التطوّعي في فحوصات الـPCR على المطار لأن عمل هذا الفريق مجاني. فإذا كانت هذه بداية الأبيض، فلا عجب أن يحصل المستوردون على كل ما يريدونه من تسعير الأدوية على رفوف الصيدليات بالدولار ورفع للأسعار الداخلية وربما للجعالات أيضاً. تفكيك الكارتيلات يبدأ بمشروع دعم الصناعة المحلية وإتاحة الفرصة أمامها لإثبات قدرتها على تغطية جزء من حاجات السوق المحلية. 9 مصانع في لبنان لديها قدرات إنتاجية جاهزة، ولا تحتاج إلا إلى أمر أساسي: دعم استيراد الموادّ الأولية.