حتى 15 تموز 2021 كانت قيمة فواتير الأدوية المدعومة التي لم يسدّدها مصرف لبنان لمستحقّيها، تبلغ 990 مليون دولار، أي أكثر من مجمل استيراد الأدوية في 2020 والبالغ 713 مليون دولار. رغم ذلك، اتّفق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع وزير الصحة حمد حسن، على أن يتم تخصيص الأدوية بنحو 40 مليون دولار شهرياً، على أن يبقى قسم من الأدوية مباعاً على أساس سعر صرف بقيمة 1520 ليرة، ويتم تحويل نحو 1500 دواء على أساس سعر صرف 12000 ليرة. وبحسب المعلومات فإنّ هذا التمويل متوافر لغاية نهاية أيلول وبعدها سيوقف مصرف لبنان تمويل استيراد الأدوية (المحروقات أيضاً) بشكل كامل، أي أن يتم تحرير أسعارها بحسب سعر الصرف في السوق الحرّة.
المصدر: الجمارك اللبنانية، أرقام شركة IMS | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وبالتزامن مع خطوة رفع الأسعار الداخلية لاستيراد الدواء، والتي تمهّد للتحرير الكامل، اتّخذ حسن قرارات تتعلق بخفض نسب الأرباح التجارية للصيادلة والمستوردين. لكن ما حصل لاحقاً، هو أن كارتيل الدواء بكل مستوياته رفض الانصياع لقرارات الوزير. المستوردون أوقفوا تسليم الأدوية للصيدليات، بينما هذه الأخيرة أضربت عن العمل اعتراضاً على خفض نسب أرباحها المتأتية من الجعالة المفروضة لحسابها عن مبيع كل دواء. وقيل يومها إن القرار الذي اتُّخذ بشأن الاستيراد الطارئ للأدوية، هو الذي فتح الباب أمام «ثورة» المستوردين والصيادلة دفاعاً عن وجود الكارتيل الذي وفّر لهم في السابق، وما زال، الكثير من الأرباح. فالاستيراد الطارئ يسمح باستيراد الأدوية خارج لوائح الاحتكار التي يحملها المستوردون في جيوبهم.
على أرض الواقع، خضع وزير الصحة لضغط الكارتيل وتراجع سريعاً عن قرارات خفض جعالات الصيادلة، وما زال يمحّص في لائحة الأدوية التي تم تسعيرها على أساس سعر صرف يبلغ 12000 ليرة لكل دولار. رغم ذلك لم يعمد المستوردون إلى تزويد الصيدليات بالأدوية. فعلى ما يبدو أن الكارتيل يظنّ أنه أقوى من أي وقت مضى لأنه قادر ليس فقط على تقنين تسليم الدواء في السوق، بل قطعه نهائياً عنها، أي أنه قادر على ابتزاز قوى السلطة وتذكيرها بأنهم شركاء معاً في صناعة هذا الكارتيل وتعزيز قوّته وأرباحه.
المشكلة أن وزير الصحّة حمد حسن تحديداً، لا يدرك أن تحطيم الكارتيل غير ممكن من دون بديل. سلامة لديه معرفة بهذا المجال كونه يمارس احتكار الدولار لتنظيم العمل المصرفي، لكن خياراته بديهية وحاسمة منذ فترة طويلة. فهو يقف أيديولوجياً في كفّة أصحاب الرساميل وشركائهم في السياسة، وهذا يعني قطعاً أنه لا يمكن دعم البديل حتى لا تنهار أي قطعة من المنظومة. هذا بالتحديد ما يجب أن تنضح به قناعة حسن: دعم الصناعة المحلية. فالمعطيات الإحصائية تشير إلى أن مصانع الدواء المحليّة يمكنها أن تغطّي نحو 68% من الأصناف العلمية الواردة في لائحة الـ1500 دواء المسعّرة على أساس 12000 ليرة لكل دولار. وبالتالي فإنه لا بدّ من توجيه الدعم لهذه المصانع لإنتاج هذه الأدوية، لما في ذلك من منافع مباشرة لتوفير الدواء، والحيلولة من دون انقطاعه مجدداً، ومنافع اقتصادية على المدى الأطول تتعلّق بخلق فرص العمل وتوسيع القدرات الإنتاجية للمصانع وإمكانية التصدير...
المفارقة أن المستوردين يرفضون القبول بلائحة الـ1500 دواء، لأن دولارها غير كافٍ لتغطية أرباحهم (!) هم وقحون وجشعون إلى هذه الدرجة. ومثلهم الطبقة السياسية تتصرّف بنفس مستوى الوقاحة والجشع. أليس مصرف لبنان من يموّل بالدولارات سواء كان سعر الدولار ليرة واحدة أو 12000 ليرة أو 25000 ليرة؟ المشكلة أنهم لا يريدون كسر الكارتيل ولا التخلّي عن احتكاره للسوق. فتح السوق على خيارات جديدة والانتقاص من سيطرتهم عليها، سيؤدّي تالياً إلى تقليص أرباحهم وقضمها.
سوق الأدوية لا يجب أن تكون بأي شكل من الأشكال حكراً عل المستوردين. أصلاً يجب أن يكون حصول لبنان على حاجته من الأدوية خارج أي سوق بمعناها الرأسمالي. يجب أن يكون هناك سياسة عامة لتوجيه المصانع ودعمها في مقابل إنتاج الأدوية التي يحتاجها لبنان. هذه هي المهمة التي كان يفترض بالدولة كلّها أن تقوم بها. كان يفترض ألا ينفق مصرف لبنان أكثر من 700 مليون دولار على استيراد الأدوية في 2020، وألا يكون دعم كل المصانع في لبنان بما فيهم مصانع الدواء بمبلغ 100 مليون دولار فقط. استيراد الدواء الذي موّله مصرف لبنان ولّد أرباحاً لأعضاء الكارتيل من مستوردين وصيادلة ومكاتب علمية وسواهم بقيمة تصل إلى 590 مليون دولار، أي ما يوازي 92% من قيمة الاستيراد. بحسب أرقام الجمارك، استورد لبنان أدوية بقيمة 713 مليون دولار في عام 2020، بينما تشير أرقام مبيعات الدواء الصادرة عن شركة IMS إلى أن مبيعات الأدوية في لبنان بلغت 1.37 مليار دولار في عام 2020.
في الواقع، ثمة إمكانية لتعزيز صناعة الأدوية في لبنان، لكن الأمر مرتبط بمدى رغبة الدولة في إعادة توجيه الدعم نحو هذه الصناعة ربطاً بالحاجات الصحية، وربطاً برغبتها في تقليص الأعباء عن ميزان المدفوعات، لا بل المساعدة على تحسينه من خلال تصدير الأدوية إلى العراق وسواها من الدول.