بيانات الوظائف الأميركية لشهر أيار الماضي، والتي أظهرت انخفاض معدل البطالة مقارنة مع نيسان، أشعلت سوق الأسهم الأميركية. حتى أن متتبعي أسواق الأوراق المالية في الاقتصادات الكبرى قد يظّنون أن الاقتصاد العالمي كان يسرع للعودة إلى وضعه العادي بعد تخفيف وإنهاء عمليات الإغلاق التي فرضتها الحكومات لمكافحة انتشار وباء كوفيد - 19.بعد انهيارها السريع بالتزامن مع بدء عمليات الإغلاق، عادت أسواق الأسهم في العالم إلى الارتفاع كالصاروخ قياساً مع المستويات المسجّلة خلال الشهرين الماضيين. تحفّز هذا الارتفاع بضخّ هائل للأموال في النظام المالي من قبل المصارف المركزية الكبرى. أتى هذا الأمر للمصارف والشركات، بالاقتراض بمعدلات تساوي صفر أو معدلات سلبية بضمانة الدولة. لذا، ليس هناك خطر من الخسارة الناتجة عن التخلّف عن السداد. كذلك، قدّمت حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا أموالاً للشركات الكبرى التي تضرّرت بسبب عمليات الإغلاق، مثل شركات الطيران وشركات صناعة السيارات والطائرات وشركات الترفيه وسواها.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من سمات القرن الحادي والعشرين أن المصارف المركزية أصبحت آلية الدعم الأساسية للنظام المالي مشكلة رافعة مهمة لـ«الاعتدال الكبير» (هي ظاهرة مفصّلة في كتابي «THE LONG DEPRESSION»). أدّى هذا الأمر إلى كبح انخفاض الربحية في قطاعات الإنتاج ذات القيمة المنتجة للاقتصاد الرأسمالي العالمي. الشركات حوّلت الأموال بشكل متزايد إلى أصول مالية يمكن إقراضها للمستثمرين بأسعار فائدة منخفضة للغاية لشراء وبيع الأسهم والسندات وتحقيق مكاسب رأسمالية. وقد قامت أكبر الشركات بإعادة شراء أسهمها الخاصة لزيادة الأسعار. في الواقع، ما أطلق عليه ماركس «رأس المال الوهمي» ازدادت «قيمته» بينما القيمة الحقيقية تقلصت أو ركدت.
بين عامي 1992 و2007، تضاعفت حصّة عمليات الضخّ النقدي للمصارف المركزي («أموال الطاقة») في الناتج المحلي الإجمالي من 3.7% من مجمل السيولة (النقود المتداولة والقروض) إلى 7.2% في عام 2007. وتضاعفت ثلاث مرات القروض المصرفية والديون. بين 2007 و2019، تضاعفت «أموال الطاقة» مرّة أخرى كنسبة من «هرم السيولة». عملياً، المصارف المركزية كانت تقود ازدهار سوق الأسهم والسندات.ثم جاء Covid-19 والإغلاق العالمي الذي دفع الاقتصادات إلى تجميد عميق. واستجابة لذلك، ازدادت ميزانيات المصارف المركزية لدول G4 بنحو 3 تريليونات دولار (3.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، ويرجّح استمرار معدّل النمو هذا حتى نهاية العام مع مواصلة التوسّع في السيولة والإقراض. لذا، ستتضاعف «أموال الطاقة» مجدداً بحلول نهاية هذه السنة، ما من شأنه زيادة قيمتها العالمية إلى 19.7 تريليون دولار، أي ما يوازي ربع الناتج المحلي الإجمالي الاسمي العالمي، وثلاثة أضعاف كنسبة من السيولة مقارنة بعام 2007.
لا عجب في ازدهار أسواق الأسهم. لكن عالم التمويل الخيالي هذا لا يحمل على نحو متزايد أي علاقة بإنتاج القيمة في التراكم الرأسمالي. وبينما عادت سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة إلى مستوياتها السابقة، فإنّ أرباح الشركات في ظل الإغلاق الناتج من الجائحة (كوفيد - 19) تعاني من أكبر انخفاض منذ الركود الكبير في 2008-2009. الفجوة بين الخيال والواقع أكبر مما كانت عليه في أواخر التسعينيات مباشرة قبل انهيار dot.com الذي شهد انخفاض أسعار الأسهم بنسبة 50% لتحويل الوهم إلى حقيقة.
السبب الآخر وراء ازدهار الأسواق المالية هو الاعتقاد المتفائل الذي روّجت له الحكومات بأن كارثة COVID-19 ستنتهي قريباً. تقول الحجّة، إن هذا العام سيكون فظيعاً لجهة الناتج المحلي الإجمالي والعمالة والدخل والاستثمار في الاقتصاد «الحقيقي»، ولكن كل شيء من المقرّر أن يرتدّ مرّة أخرى في عام 2021 مع انتهاء عمليات الإغلاق، ثم يأتي لقاح المعجزة وبالتالي تكون العودة إلى الوضع الطبيعي سريعة. لذا، يتطلّع المضاربون إلى القفز فوق فجوة الركود الوبائي إلى الجانب الآخر حيث يمكن أن تتحرّك الأشياء مرة أخرى.
في الولايات المتحدة، أظهرت أرقام التوظيف لشهر أيار انتعاشاً حاداً في الوظائف. ومع بدء انتهاء أو استرخاء في الولايات المتحدة، يبدو أن العديد من الأميركيين يعودون إلى العمل في قطاعَي الترفيه والتجزئة بعد أن تم دفعهم لمدة شهرين. سوق الأسهم أعجب بالأمر مفترضاً أن الشكل (V) سيحدث. لكن معدّل البطالة في الولايات المتحدة لا يزال 13.3%، أو أعلى من ثلث ما كان عليه في عمق الركود العظيم. وإذا تضمن المعدل، أولئك الذين يرغبون في العمل بدوام كامل ولا يمكنهم الحصول عليه، يصبح معدل البطالة 21% يضاف إليها 3 ملايين شخص غير مصنفين، أي إن معدل البطالة الإجمالي في أيار قد يصل إلى 25%.
أرباح الشركات تعاني من أكبر انخفاض منذ الركود الكبير في 2008-2009 والفجوة بين الخيال والواقع أكبر مما كانت عليه في أواخر التسعينيات


يتوقع عودة بعض موظفي التجزئة والترفيه إلى العمل. ما يُثار يتعلق باستعادة المستويات السابقة للناتج المحلي الإجمالي ونموّ الاستثمار. ليس هناك توقعات مماثلة. فبينما تتجه أسواق الأسهم إلى أعلى مستوياتها السابقة مدعومة بأمل الانتعاش، فإنّ معظم التوقعات الاقتصادية السائدة تشير إلى موت وعودة طويلة المدى وسط توقعات بعدم العودة إطلاقاً إلى الاتجاهات السابقة. فالاقتصاد الرأسمالي العالمي لم يكن يسير بخطى سريعة قبل الوباء، بل كان النموّ والاستثمار يتباطآن في معظم الاقتصادات الكبرى وما يسمى الاقتصادات الناشئة الأكبر، بينما توقفت أرباح الشركات عن النموّ، بل كانت ربحية رأس المال في الاقتصادات الرئيسية تقترب من أدنى مستوى لها بعد الحرب رغم الأرباح الضخمة التي حققها عمالقة وسائل الإعلام الفنية FAANGS.
أجرى مكتب ميزانية الكونغرس الأميركي مراجعة جذريّة لتقديرات نموّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي. فتوقع انخفاضاً في الناتج الاسمي بـ14.2% في النصف الأول من 2020 مقارنة مع تقديرات ما قبل الوباء، لكن الانخفاض سيبلغ 9.4% بسبب الضخّ النقدي وانتهاء الإغلاق بحلول نهاية عام 2020. عملياً، لا يزال البنك المركزي يتوقع نوعاً من الانتعاش على شكل (V) في عام 2021، لكنه لا يتوقع أن يعود اتجاه النمو الاقتصادي في أميركا لمرحلة ما قبل الأزمة، حتى عام 2029، وقد لا يعود حتى عام 2030! لذا ستكون هناك خسارة دائمة بنسبة 5.3% مقارنةً بتوقعات ما قبل الوباء، أي إن الناتج فقد 16 تريليوناً من قيمته إلى الأبد.
هناك توقعات مماثلة في أوروبا بعدما سجّل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمنطقة اليورو انخفاضاً قياسياً بـ3.8% في الربع الأول من 2020. ويتوقع البنك المركزي الأوروبي انخفاضاً آخر في الناتج المحلي الإجمالي بـ13% في الربع الثاني. على افتراض أن عمليات الإغلاق انتهت وأن الإجراءات المالية والنقدية فعّالة، يعتقد البنك المركزي الأوروبي أن الناتج الحقيقي في منطقة اليورو سينخفض ​​بنسبة 8.7% في 2020 ثم ينتعش بنحو 5.2% في 2021 وبنحو 3.3% في 2022. هذا يعني أن الناتج الحقيقي سيبقى أقل بمعدل 4% من المستوى المتوقع قبل الوباء. وستبقى البطالة أعلى بنحو 20%. هذا هو «السيناريو المعتدل»، أي في ظل سيناريو يتضمن موجة فيروسية ثانية وقيود أخرى، يتوقع البنك المركزي الأوروبي أن منطقة اليورو ستظل أقل بنحو 9% من المستويات المتوقعة ولن تعود إلى «الطبيعة» قريباً!
خارج منطقة اليورو ، لا يرجّح أن يدير الاقتصاد البريطاني الضعيف بالفعل ارتفاعاً على شكل (V) تاريخياً. هناك ندبات دائمة.
بالنسبة إلى «الاقتصادات الناشئة» تبدو الصورة أسوأ. ثمة اعتقاد أن تقلّص الناتج سيبلغ 10% في عام 2020، في الأرجنتين سيتقلص إلى ما كان عليه في 2007، وفي البرازيل سيتقلص إلى مستويات عام 2010، وفي المكسيك سيعود إلى مستويات 2013. «عقد ضائع» حتى قبل احتساب خفض قيمة العملة.
كانت أرباح الشركات الأميركية في الربع الأول أقل بنسبة 8.5% عن الربع الأول من 2019، وانخفضت أرباح القطاعات الإنتاجية (غير المالية) بقيمة 170 مليار دولار، وتراجعت أرباح القطاع غير المالي بشكل أو بآخر على مدى السنوات الخمس الماضية، لذا فإن 2020 ستكون إضافة فوق مشاكل الشركات الأميركية في محاولة الخروج من هذا القفل الوبائي بنفس مستويات الاستثمار السابقة والإنتاج والتوظيف.
إذا نظرنا إلى الربحية (وليس كتلة الأرباح) لاقتصادات مجموعة السبع، فالمرجّح أكثر من العودة إلى الوضع الطبيعي (الضعيف على هذا النحو)، أن تكون هناك خطوة أخرى إلى الأسفل في هذا الكساد الطويل الذي شهدته الاقتصادات الإمبريالية الرئيسية (مع دفعات قصيرة صعوداً وهبوطاً) منذ عام 2009. وزن الربحية من الناتج المحلي الإجمالي لأكبر سبعة اقتصادات رأسمالية متقدمة (مجموعة السبع) يشير إلى أن ربحية رأس المال بلغت ذروتها بالفعل (كمتوسط ​​مرجح) في عام 1997، وأنه طوال عقدين كاملين من القرن الحادي والعشرين هناك اتجاه واحد لانخفاض الربحية (يتخلله انتعاش قصير (2001-2005، 2009-2010). وباستعمال المنهجية نفسها من أجل التقدير في عام 2020 على قاعدة بيانات الاتحاد الأوروبي AMECO يظهر أن ربحية رأس المال في مجموعة G7 ستنخفض ​​إلى أدنى مستوى على الإطلاق وارتداداً متواضعاً في 2021.
قد تتوقع الأسواق المالية عائداً سريعاً (ويحقق المستثمرون الذين يستخدمون هذه التوقعات أرباحاً ضخمة الآن)، لكن الحقيقة أن طفرة السوق المالية تطفو على محيط من الائتمان المجاني الذي يوفره التمويل النقدي للدولة والبنك المركزي. هذا الائتمان لا يحفّز النشاط الاقتصادي، كما يظهر مقياس سرعة المال (سرعة المعاملات النقدية). إن الطفرة التي يغذيها الائتمان في رأس المال الوهمي لا تدفع نحو نمو أسرع في القيمة الحقيقية أو الربحية، بل نحو الحافة.
الحفاظ على نشاط في سوق الأصول هو أمر، واستعادة 35 مليون أميركي إلى العمل هو أمر آخر، وخصوصاً عندما يوظّف غالبيتهم في شركات لا تتمتع بفوائد الوجود ضمن «S&P 500»، وتكون بعيدة جداً عن شركات التكنولوجيا الرائدة التي دعمت مؤشرات أسعار الأسهم.
في الواقع، حين يكون الاقتصاد على مسار انحداري وضعف في الإنتاجية والنمو، فإن الوباء يعزّز الاتجاهات الحالية. ستكون الديون الناتجة عن «أموال الطاقة» بمثابة عبء إضافي على النمو. رغم التفاؤل في الأسواق المالية، فإن العودة إلى وضع طبيعي تبخّرت في الأفق.

* نقلاً عن مدونة مايكل روبرتس. للاطلاع على المقال بنسخته الأصلية: (https://thenextrecession.wordpress.com)