يدرك الجميع أننا في عالم معولم، ولكن الوعي بأسباب العولمة وتداعياتها ليس مفهوماً على حدّ سواء عالمياً. وبناءً لفهمي المتواضع، تثبت العولمة أن مفهوم الاستقلال الاقتصادي أصبح بالياً وأن مزيجاً من المواطنة و«المستهلاكية» حلّ مكان المفهوم القديم للمواطنة الصرف.يدفع السعي وراء السعادة الناس، اليوم، إلى الانتقال إلى أي مكان يستطيعون الوصول إليه في العالم لتلبية حاجاتهم. وهذا هو السبب الحقيقي للهجرة من أميركا الجنوبية إلى الشمالية ومن إفريقيا أو أفغانستان إلى أوروبا، وأخيراً من سوريا إلى لبنان، بغض النظر عن الدوافع الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية. وينتقل الناس من المواطنة إلى مفهوم أكثر جاذبية، ألا وهو مزيج من المواطنة والنزعة الاستهلاكية حيث يبحث الأفراد عن أفضل الخدمات التي تقدّمها الدول شرط أن يكونوا قادرين على العثور على طريقة للهجرة إلى ملاذات جديدة.

إلى الأمام وإلى الأعلى
يهاجر اللبنانيون إلى العالم المتقدّم لأنهم غير راضين عن أوضاعهم. فالمهمّة الأساسية والأولى للحكومات في كل البلدان، لا سيّما في الدول الناشئة، تتمثّل في تحقيق الرخاء والسعادة لمواطنيها. ولكن عدداً قليلاً من الدول النامية يفعل ذلك عبر اعتماد الدول الناجحة كمقياس ومحاولة سدّ الفجوة بين مستوى المعيشة لديها ومستوى المعيشة في العالم المتقدّم.
وكان لتلاشي المسافة والوقت، عواقب ليس فقط على التبادل التجاري، بل أكثر وأوضح على الفرد، بسبب الانتشار الواسع لاستخدام التكنولوجيا، كالإنترنت والهواتف الذكية، الذي ربط بين المواطنين العالميين. وهنا تحديداً حيث أرى العولمة أكثر فعالية ووضوحاً.
العولمة لها تأثير هائل على السياسة والاقتصاد. ومصير مجمل البلدان الصغيرة، مثل لبنان، هو اليوم على المحك. فكيف يمكن للاقتصادات الصغيرة الصمود والاستمرار ضمن اقتصاد عالمي حيث التعليم والبنية التحتية والتكنولوجيا والأسواق والدفاع والقوانين والقرارات التنظيمية - وجميع الخدمات الحكومية الأخرى - تتطلّب رؤيا واستثمارات، بعيدة المدى، تفوق طاقاتها؟ لذلك علينا أن نعترف بأن لبنان ليس سوى قطعة صغيرة في اللوحة العالمية، وبالتالي يحتاج إلى إعادة تشكيل نفسه ليجد مكاناً مميّزاً له في الخريطة الإقليمية والدولية بطريقة أو بأخرى.
السؤال الرئيسي الذي يجب طرحه هو كيف يمكن وضع لبنان في أعلى مدار فلكي ممكن؟ الإجابة هي بأن نبدأ بالقيم الخاصّة بنا. ففي عملية بناء الأمم، تُعتبر القيم الركائز الأساسية التي تقوم عليها الأمم.
ولكن للأسف، في أعقاب حرب (1975 - 1990) والاحتلالات التي تلتها، تراجعت قيمنا من قيم كنا نتشاركها سابقاً مع الدول الناجحة في العالم الحرّ إلى قيم نتشاركها حالياً مع الدول الفاشلة. ومن أجل معالجة هذا الوضع، يحتاج لبنان إلى جيل مختلف من القادة وطريقة جديدة في الحكم السياسي تجمع بين السلطة والمسؤولية. ففي لبنان اليوم، يتقاسم الكثيرون السلطة، وبالتالي لا يتحمّل أحد المسؤولية. وينتج عن ذلك حكومات غير خاضعة للمساءلة - إذا ما تمّ تشكيلها - وزيادة في الهدر والفساد. فالفساد أصبح جزءاً لا يتجزأ من مشهدنا الثقافي.
نحتاج إلى جيل جديد من القادة لربط البلاد بقيم إنسانية أساسية، وهي قيم تشكّلت مع مرور الوقت على يد أعظم الفلاسفة وألمع العقول. ويجب أن تكون هذه القيم في صميم المواطنة من اليوم الأوّل، وأن يتمّ إرساؤها من الطفولة المبكرة وصولاً إلى الجامعة. وأنا مدرك تماماً بأن الأمر سيستغرق وقتاً وجهداً كبيرين لإعادة بناء نظام القيم الخاصّ بنا، إلّا أنّه السبيل الوحيد لوضع أجيالنا المقبلة على المسار الصحيح. إنها مسألة حياة أو موت.

الإصلاح الحقيقي
وبناءً على ما سبق، يمكن أن يتمتّع الاقتصاد ببيئة مواتية للغاية وحافلة بالإمكانات، ما سيتيح لنا إعادة التفكير في نموذج اقتصادي شامل جديد. ويعني «الاقتصاد السياسي الجديد» الذي أدافع عنه في كتابي Un Projet Une Nation (مشروع أمة: لبنان الغد)، بناء مجتمع حيث النموّ يكتمل عن طريق إشراك الجميع، وحيث اللامساواة تنخفض ليس بسبب السياسات الإلزامية غير العادلة التي تؤدّي إلى هروب الرساميل، بل عبر ضرائب عادلة ومتجانسة ونموّ متوازن. فأنا أدافع عن اقتصاد ذكي يحمل فرصاً متساوية، وليس عن رفاهية غير خاضعة للمساءلة. فعلى الجميع تحمّل المسؤولية والقيام بدورهم في نموّ هذا المشروع المستقبلي.
إن الهدف من كل ذلك هو تفادي أن يتحوّل لبنان إلى دولة يمكن الاستغناء عنها، وجعله بدلاً من ذلك، بلداً يحمل رسالة ومهمّة واضحة لتعزيز قيم الحرية والتسامح والمسؤولية تجاه البشر. فهل نحن قادرون على بذل هذا الجهد والتحوّل إلى مثال تحتذي به دول منطقتنا وغيرها من مناطق العالم؟ هذه بالضبط المسألة التي يجب أن تتطرّق إليها أية قيادة جديدة.
لدى لبنان أيضاً فرصة فريدة من نوعها ليصبح دولة رائدة في مدّ الجسور بين المسيحية والإسلام. فبلدنا لديه تجربة عملية وشعب قادر على مناصرة هذا الهدف النبيل. لذلك دعونا نضع هذا الهدف كأولوية سياسية على أجندتنا الوطنية.
علينا أيضاً أن نعيد هندسة النظام السياسي والاقتصادي برمّته، بدءاً من تحديد مهمّة الدولة الجديدة ودورها. فما هو الغرض من وجود الدولة؟ هو تحرير شعبها من القيود الكثيرة التي تكبّله، وليس سجنه في قوانين بالية وغير عادلة. وبعد بناء إجماع على التغيير، سنحتاج إلى تنظيم ورش عمل وطنية حول كلّ القضايا التي تؤثّر على الحياة اليومية للمواطنين، مثل القوانين المالية وعملية وضع الموازنة وقانون العمل وصناديق التقاعد، إلخ، وذلك من أجل تحويل لبنان إلى دولة حديثة تلبّي احتياجات شعبها. فالعالم يسير أسرع من التشريع الذي يقوم به نوّابنا - أسرع بكثير مما يمكن للعديد من العقول تخيّله - وستزيد سرعته اضطرادياً يوماً بعد يوم.
علينا أن نحقّق الإصلاح بهدف الحدّ من اللامساواة ورفع مستويات المعيشة والأهمّ خدمة البشرية. ويجب أن يعزّز نظامنا التعليمي التفكير النقدي بدءاً من سنّ مبكرة، وأن يسعى إلى بناء فرد مسؤول تجاه مواطنيه ومتسامح تجاه كلّ البشر بغض النظر عن جنسيتهم أو دينهم أو جنسهم أو عرقهم أو ميولهم الجنسية.
يجب أن يسعى اقتصادنا في المستقبل القريب إلى تقليص اعتماده على الصادرات إلى الدول العربية، كجزء من تحرّكنا نحو مزيد من الاستقلال السياسي والاقتصادي. فوجود حدود برّية واحدة للصادرات عبر سوريا يجعلنا مرتهنين سياسياً، وبالتالي اقتصادياً، للنظام السوري. لذلك، يجب أن نستهدف خدمات ذات قيمة مضافة في اقتصاد المعرفة، ستكون قابلة للتصدير ليس فقط عبر حدودنا ولكن في كلّ أنحاء العالم عبر الطرق السريعة للمعلومات.
في الربع المقبل من القرن الحالي، ينبغي علينا السعي إلى تحقيق معدل نموّ ذاتي (endogenous) أعلى من 6%، واستهدافه من أجل التغلّب على النظرة القاتمة لمسارنا الحالي. وهذا أمر ممكن، شرط أن نوافق على ضرورة إصلاح نظامنا بالكامل كما لو كنّا نبدأ من الصفر.
يجب أن نقوم بدور نشط في الثورة الصناعية الرابعة، ونبدأ في بناء قدراتنا من أجل الثورة الخامسة، فعلينا أن نتوقّع دائماً ما هو أبعد من الشيء الكبير التالي، لا أن نعلق في الماضي والحاضر. فالحكم يعني التخطيط للمستقبل مع تخفيف المخاطر وتحضير أنفسنا لمواجهة أية أوضاع غير مستقرّة وواضحة. لذلك دعونا نركّز على ما يجعلنا بلداً لا غنى عنه للمنطقة والعالم. ودعونا نفكّر خارج صندوقنا القديم، والانتقال من معتقداتنا القديمة، والتطلّع نحو ما هو أبعد من المستقبل. فهذه قفزة نوعية يجب أن نحقّقها، قفزة تحصل في أذهاننا بشكل رئيسي: فنحن بحاجة إلى خلق طريقة جديدة للتفكير المستقبلي وثقافة جديدة للبنان. وهذه رؤيا ضرورية لمستقبل بلدنا، ليس أقلّه لأولئك الذين سيخلفوننا.
أفكّر في الفقر المُدقع في عكار ووادي البقاع الشمالي، وفي أماكن عدّة أخرى في لبنان، فأشعر بعبء عدم توفير بديل، وترك العديد من المواطنين يجبرون على اللجوء إلى أنشطة غير مشروعة من أجل عيش حياة كريمة. نحن ندفع ثمن قصر نظرنا الجماعي وعدم قدرتنا على إعطائهم الفرص تشاركنا الرخاء.
أفكّر في كلّ العنف الممارس ضدّ أطفالنا وزوجاتنا. أفكّر في شبابنا الذين يهاجرون بعيداً من عائلاتهم بحثاً عن وظائف.
أفكّر في كلّ العمّال وروّاد الأعمال وكلّ العاطلين عن العمل والمعوّقين والمسنين والشباب، من كلّ مناطق لبنان وكلّ الأعمار وكلّ الأديان والمعتقدات الذين يعانون من قلّة الاحترام والكرامة في حياتهم اليومية.
لقد حان الوقت لدخول عصر التنوير. وهذا ليس حلماً ينتاب أحد أعضاء النخبة المثقّفة في هذا البلد، بل معركة بدأت قبل سنوات عدّة ولن تتوقّف أبداً، ما دام هناك أمل في تعزيز قيم الحرية والإنسانية والكرامة وهزيمة العنف والجهل والفقر.

* مستشار رئيس حزب القوات اللبنانية للشؤون الاقتصادية

* هذا المقال يمثّل رأيي الشخصي ولا يُلزم بالضرورة حزب القوات اللبنانية. وأتأمّل منه فتح نقاش موضوعي للتقارب وليس للفراق والافتراق.