تتمثّل نقاط الضعف الرئيسة في الاقتصاد اللبناني في الركود وارتفاع معدلات البطالة والعجز الهائل في الميزان التجاري والحساب الجاري وميزان المدفوعات. فالعجز التجاري، الذي يعاني منه لبنان، مزمن، بلغ نحو 13.5 مليار دولار عام 2016، وتشكّل الواردات ثلث الناتج المحلي الإجمالي، فيما الصادرات تساوي أقل من العُشر. ولتمويل العجز المتنامي في الحساب الجاري، استُخدمت تدفّقات الرساميل واستنفذت الاحتياطات الأجنبية.في ظل كلّ ذلك، ما زال احتياطي الموارد قادراً على تفادي وقوع لبنان في أزمة نقدية. يترافق ذلك مع ارتفاع القروض المتعثّرة حتى 10% في نهاية عام 2017، مع تباطؤ في القطاع العقاري، ما يشكّل خطراً جدّياً على المصارف، اذ تبلغ حصّة القطاع العقاري نحو 35% من مجموع التسليفات.
أنقر الصورة للتكبير

تشكّل العجوزات المالية الهائلة والدّين الكبير الناجم عنها، صلب الأداء الاقتصادي الضعيف في شكل عام. فالعجوزات المستمرّة منذ تسعينات القرن الماضي، تقود إلى تراكم الدّين في شكل هائل، وإلى معدّلات فائدة مرتفعة جداً وخدمة دين سنويّة ضخمة، تمتصّ كلّها نحو نصف مجموع الإيرادات. أما معدلات الفائدة المرتفعة وتحويل الموارد إلى القطاع العام، فتحجب استثمارات القطاع الخاص في المجالات كافّة وتمنع الاقتصاد من زيادة معدّل النمو وخلق الوظائف. كما أدّى الضّعف في الإدارة والتخطيط والتنفيذ، بالتوازي مع قيود أخرى عدة، إلى أزمات بنيويّة وأحبط الاستثمارات الخاصة.
طاولت الاقتطاعات في قانون موازنة عام 2018 الانفاق الجاري والانفاق الرأسمالي بنسبة 4% و6% على التوالي، بدلاً من نسبة الـ20% التي روّج لها كثيراً رئيس الوزراء سعد الحريري، إلا أن الموازنة الحالية لا تزال أعلى بنسبة 13.5% من موازنة عام 2017 ومن الأعوام السابقة، ويتوقّع أن يبلغ العجز فيها 8.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
ما يثير الغرابة هو أنّ موازَنتَيْ 2017 و2018 استثنتا الدعم الحكومي لمؤسسة كهرباء لبنان، أو «الاعتمادات المالية» كما تفضّل الحكومة تصنيفها، والتي كان يجب أن تُدرج مع الاعتمادات الصافية كأحد بنود النفقات في الموازنة. هذا التلاعب غير الشرعي قلّل من تقدير العجز والتمويل بـ2.1 تريليون ليرة لبنانية عامي 2017 و2018. وفي الوقت نفسه، تشدّد الحكومة على الشفافية وتعتبرها أولوية أساسية.
ما زالت معدلات الفائدة المرتفعة، إضافة إلى سعر الصرف الثابت، تحفّز تدفقات رساميل قصيرة الأجل مع فرص محدودة لتوظيفها. وقد أدّى ذلك إلى تشكّل فقاعة في الاحتياطات (ودائع للمصارف في المصرف المركزي) بلغت 48% من إجمالي الأصول في المصرف في نهاية عام 2017. بدوره، يقوم البنك المركزي بتعقيم الاحتياطات غير المشغّلة، من أجل الحفاظ على استمرار التدفقات المطلوبة لتمويل الحساب الجاري لميزان المدفوعات وللحفاظ على احتياطات النقد الأجنبي في النظام المصرفي، بما في ذلك احتياطات المصرف المركزي. ويبلغ معدل كلفة الاحتياطيات الزائدة نحو 4%، ما يؤدي إلى عبء ثقيل على الموازنة العمومية للمصرف المركزي.
في المقابل، أصبح المصرف المركزي صاحب الحصّة الأكبر من الدين الحكومي، من أجل الحفاظ على موقعه في الدخل. وكان من شأن هذه الحلقة من الاعتماد إثارة شكوك حول مقدرة النظام على المحافظة على استدامته وتحقيق ذلك بالشكل الصحيح.
تداعيات برنامج «سيدر» للاستثمارات
قد يواجه لبنان تدهوراً مالياً خطيراً نتيجة التعهّدات التي حصل عليها في مؤتمر «سيدر» والقروض الأخرى تحت مظلّة «البرنامج العالمي لتسهيلات التمويل الميسّر (GCFF)». هذه المقاربة هي عكس ما يحتاجه لبنان، أي تقليص العجز والإصلاح أولاً قبل الاستدانة. فلا شكّ أنّ العجوزات الكبيرة ستخفّض التصنيف الائتماني للبنان أكثر. لذلك فإنّه لا يمكن استئناف الاستثمارات والنمو كما يفترض سوى عبر تخفيض العجز وبالتالي معدلات الفائدة.
وكان فريق صندوق النقد الدولي، في آخر زيارة استشارية له في شباط/ فبراير الماضي، قد أشار إلى أنّ لبنان يمكن أن يواجه تدهوراً كبيراً في ماليّته بسبب برنامج «سيدر» المقترح للاستثمارات الهائلة، متوقعاً أن يرتفع العجز إلى 14% من الناتج المحلي بحلول 2030.
ولكن الاقتراح الذي طرحته الحكومة بإجراء إصلاحات مالية بالتوازي مع زيادة الإنفاق، وبالتالي تخفيض العجز بنسبة 1% سنوياً (إذا افترضنا أن ذلك سيحصل)، لن يحسّن المشهد المالي، لأنّه سيؤدّي إلى عجز صافٍ بنسبة 9% بدلاً من 14% مقارنة بنسبة 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي حالياً. ومن شأن العجوزات المرتفعة والمترافقة مع معدلات فائدة عالية أن تخنق الاقتصاد وتؤدي إلى تفاقم الركود بدلاً من قلبه.


لا يمكن أن يكون تأثير مؤتمر «سيدر» في النمو والتوظيف فورياً كما يشاع. فبعض الوعود مبالغٌ فيها وكانت مستمرة منذ ما قبل مؤتمر «سيدر» بينها وعود البنك الدولي والصندوق الكويتي ووعد المملكة العربية السعودية بالدعم العسكري ووعد البنك الإسلامي للتنمية. في الواقع، إن أقل من خمسة مليارات هي وعود نظيفة. ولدى لبنان خطوط ائتمان مستمرة تتجاوز ثلاثة مليارات دولار تواجه تأخيراً في التنفيذ.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار الوقت الذي يستغرقه تحويل الوعود إلى التزامات ثابتة عبر موازنة المانحين، فإن إقرارها ضمن الموازنة اللبنانية وتصميم المشاريع والقيام بالإجراءات المناسبة والشروع في التنفيذ، لن تبدأ قبل عامين أو ثلاثة.
إضافة إلى ذلك، لن يكون للتنفيذ الأولي أي أثر تحفيزي على النمو، حتى يتم إنجاز المشاريع بالكامل. كما أن الادعاء بأنه ستتم إتاحة فرص عمل بمعدلات مرتفعة تتراوح بين 6 و7% سنوياً، هو ادعاء وهمي (يشاع بأن الاستثمارات بقيمة مليار دولار في البنى التحتية تتيح 100 ألف فرصة عمل، علماً أن البنك الدولي يقدّر بأن هذه القيمة من الاستثمارات لا تخلق أكثر من 20 ألف وظيفة). إذاً المطلوب إصلاح فعلي وليس بروباغندا سياسية.
لن يكون للتنفيذ الأولي أي أثر تحفيزي في النمو حتى يتم إنجاز المشاريع بالكامل


يتبع لبنان المقاربة العراقية إلى حد كبير، حيث تُطرح مئات المشاريع من دون صياغة خطة إصلاح ومن دون تبسيط أنظمة العمل وتقديم سياسة مالية مجدية؛ وهذه الأمور جميعها تشكّل المفتاح لجذب الاستثمار الخاص النظيف. غير أن هذا النهج لا يزال متعثراً.
ويبدو أن قلق المانحين (تجاه معظم المشاريع) يهيّئ ظروفاً تسمح للبنان بأن يشكّل فرصة للاجئين السوريين بأن يذوبوا في الاقتصاد اللبناني. وعلى الرغم من أن هذا يمكن أن يعتبر قضية إنسانية محقّة، إلا أن الفوائد حينها يجب أن تُشارك مع اللاجئين السوريين من أجل الحدّ من الأثر على المجتمعات المضيفة (اللبنانية في هذه الحالة).

توصيات
يمكن للمشهد المالي أن يكون أقل ضرراً إذا ما تم حصر القروض بالمشاريع التي يمتنع القطاع الخاص عن القيام بها مثل مشاريع كبرى للطرقات والمياه والصرف الصحي. ويمكن أيضاً للبرنامج الاستثماري لـ«سيدر» أن يكون أكثر فائدة إذا ما استبدل أجزاءً من برنامج الاستثمار في الموازنة، خصوصاً مشاريع قيد التنفيذ. فمن شأن هذه الأمور معاً إذا ما أضيفت إلى خطة حذرة لتقليص الموازنة، أن تقلّص الخطر المالي.
تقنياً، يمكن تحقيق تخفيض كمّي في الموازنة للوصول إلى موازنة متوازنة عبر مجموعة إصلاحات عملية في غضون أربعة إلى خمسة أعوام وهو أمر يجب أن يتصدّر الأولويات:
إصلاح قطاع الطاقة من خلال شراء الكهرباء من منتجين دوليين، بالتوازي مع تعديل التعرفة (إلى 14.5 سنتات للكيلو واط الواحد) يمكنه أن يلغي الدعم المالي الكبير للكهرباء ويوفّر على المستهلكين نحو مليار دولار.
مقارنة بالتمويل المقترح في «سيدر»، يمكن للتوفير المحقق في قطاع الطاقة على مدى ستة أعوام أن يبلغ 14.4 مليار دولار أي أن يتخطّى وعود المانحين البالغة 11.2 مليار دولار ويلغي الحاجة إلى «سيدر».
بالإمكان تبسيط بنود الدعم الأخرى في الموازنة وخفضها في شكل كبير.
يمكن لإجراءات تعزيز الإيرادات بما في ذلك مكافحة التهرّب الضريبي وتحصيل ضريبة الدخل من الشركات وإعادة هيكلة الضريبة على القيمة المضافة، أن تحقّق نتائج مهمة.
يحتاج لبنان إلى العديد من الإصلاحات الأخرى ذات الطبيعة الهيكلية.
يجب أن يكون مجتمع المانحين والجمهور يقظين ولا يسمحون بصرف الأموال قبل أن تسبق الإصلاحات زيادة النفقات.