«الخيال هو الأصدق نقلاً للحقيقة من كل أنواع الصحافة» - ويليام فولكنر
كانت حقبة الحرب الباردة وقت صراع ساخن في العالم. أينما كان هناك نزاع، حَلّت الولايات المتحدة الأميركية: في فيتنام، في مواجهتها مع كتلة أوروبا الشرقية، خسارتها أمام الثورة الكوبية، أزمة الصواريخ التي أعقبتها، فضلاً عن كل ما كان يحدث في الداخل، من ظهور حركة «الفهود السود» (Black Panthers) والحركات الاحتجاجية ضد الرأسمالية وغيرها. أميركا كانت مشتعلة وأصبح نظامها متخبطاً بالأزمات، مهدداً بالانهيار، فشرع فنانو ومفكرو تلك الحقبة بالتفاعل مع المرحلة بطريقتهم الخاصة. شكّلت خمسينيات وستينيات القرن العشرين في أميركا فترة مناسبة لظهور الفردية والتفكير وفقاً لمقياس ما هو شخصي، كما أصبح المشهد الثقافي الأميركي حيّزاً متاحاً للذاتية. فالرسم التجريدي وأساليب الكتابة التجريبية تحوّلت إلى وسائط تعبيرية طاغية في تلك الأوساط. كان الناس يستكشفون أنفسهم روحياً، يفرطون في انهماكهم في أغوار الذات بحثاً عن خلاص من مترتّبات الحياة اليومية الثقيلة، وكان الشباب يحتشدون في هيئات سياسية فاعلة وناشطة مثل الـ«هيبيز». أحد أهم الأعمال الأدبية التي ألهمت ولادة هذه الحركة كان كتاب «على الطريق» للروائي والشاعر الأميركي جاك كيرواك. وسرعان ما انتشرت الدعوة التي حملتها هذه الرواية فور صدورها عام 1957، بارتكازها على نمط السرد المعروف بــ«التدفق الواعي»، وهي تقنية سردية تعتمد السرد الجارف في كتابة خالية من رقابة العقل، لا تعترف بالضوابط، جسّدت مناخ العيش في حياة على هامش المجتمع الرأسمالي.

(رسم: رالف ستيدمان)

بأسلوب يتوغل في صلب اهتمام الكتابة الصحافية، شكّلت موضوعات الرواية مثل الحرية المطلقة والتفلّت من القيود التي يفرضها النظام لتحلّ مكانها أصالة الفرد وأفقه الخاص ولا تنتهي عنده، أحد الأعمدة الرئيسية في تشكيل الثقافة المضادة بين الشباب الأميركي، مشجّعة إيّاهم على تغيير طريقة نظرتهم لأنفسهم أو لمكانتهم وفقاً لما يحدّدها لهم العالم الصناعي المتقدّم المتنامي.
في خضمّ هذا الجوّ التجريبي الهائم، والبحث المتجدّد عن وسائط تعبيرية جديدة، ولد ما بات يُعرف لاحقاً بصحافة الـ«غونزو»، والتي ظهرت كاتجاه حديث خلال ستينيات القرن الماضي، وأطاحت بكلّ الأشكال الصحافية التقليدية. هانتر. س. طومسون هو عرّاب هذه الصحافة ومخترعها، ألهمته مقولة الروائي ويليام فولكنر عن إمكانية الكتابة الجيّدة، وإن استندت إلى الخيال، في أن تكون أصدق من الأنباء والأخبار التي ترد في الصحافة. لكن طومسون لم يكن يتقصّد أبداً خلق مدرسة جديدة في الصحافة، كما أن لا يد له أصلاً في التسمية التي اتسم بها والتي رافقته طوال حياته. ما كان يستقصّ فعلهُ حقيقةً هو مضايقة الصحافيين الذين يدّعون الجديّة والموضوعية، والسخرية منهم، في محاولة لتعريتهم وفضح ماَل هذه الموضوعية المزعومة بقوله إنها «السبب في الإتيان بريتشارد نيكسون رئيساً للولايات المتّحدة الأميركيّة».
يُقال إن مصطلح غونزو أتى بعدما نشر طومسون مقالته «كنتاكي ديربي فاسد ومنحط» في مجلّة شهرية تدعى «سكانلانز»، نبذ فيها كل قواعد الصحافة الموضوعية والحيادية، واعتنق بدلاً من ذلك الأسلوب الذاتي، فحملت مقالته كل تفاصيل رحلته الشخصية. كانت مقالته كناية عن مجموعة من الانطباعات والملاحظات العشوائية في كتابة مفعمة بالسرد المسترسل، وكان تحت تأثير المخدرات - وهو عنصر من العناصر التي تميّزت بها هذه الصحافة - فغالباً ما انحرف نصّه نحو الخواطر والأفكار العنيفة الفظّة، مولّدة بذلك عالماً مجنوناً يتداخل فيه الحقيقي والخيالي: «ستيدمان» الاَن قلق على فايير (fire). أحد ما أخبره عن النادي الذي احترق منذ سنين. هل من الممكن حصول ذلك مجدداً؟ شيء مروّع. عالق في عالم الصحافة. المحرقة. مئات آلاف الأشخاص يصارعون للخروج. سكارى يصرخون في اللهب والوحول. أحصنة مجنونة جامحة عمياء في الدخان. المدرج ينهار في النيران ونحن على السطح».
عوضاً عن وضع الحدث في محور القصة كما كرّسها نهج الصحافة التقليدية، تُركز الـ«غونزو» على المسار الذي يفرضه الحدث وعلى الكاتب نفسه، واضعةً إياه أولوية. ابتداءً من الانطباعات التي يتلقاها، الأشخاص الذين يلتقيهم، ومحادثاته، ومكنونات حواسه، وخياله الذي يستمدّ طوره من الواقع الذي يعيشه، تشكّل كل هذه العناصر المادة الصحافية والمركز الأساسي الذي يدور النص حولها. فصحافة الـ«غونزو»، هي كسر العوائق الموضوعية من أجل فسحة للذاتية، ذلك بهدف إنتاج قصص غير تقليدية وغير متتابعة في سير أحداثها، ما يتطلّب المزج بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، والرجاء الانتباه! فقد ولد هذا التيار بمحض الصدفة.
لم يكن هانتر طومسون بارعاً في المهل المحددة. بعث نسخة مقاله لمجلة «سكانلانز» في آخر لحظة من صفحات غير منقّحة كان قد مزّقها من دفتر يومياته الذي دوّن عليه مشاهداته وأفكاره. وفي واقع الحال، لم يكن لهذه الملاحظات أيّ علاقة بالـ«ديربي» (السباق)، بل بالأشخاص الذين شاهدوه. لم يلعب هانتر طومسون دور المراسل الذي يكتب تقريراً إخبارياً أو تغطية صحافية، إذ إن ما ورد في كتابته هو موضوعات أخرى بالكامل، أما الهدف من هذا الانزياح فهو أن يعكس فوضى العصر، والأحاديث المبتذلة الكارثية مع نخبة أميركا، وأيضاً انتقاد وحشية وغرابة طابع الثقافة البورجوازية، فكما يقول هانتر طومسون: «على عكس الغالبية في عالم الصحافة، لم نكترث البتّة بما كان يحصل في مضمار السباق. أتينا إلى هنا لرؤية الوحوش الحقيقية تؤدي دورها».
عندما كان لا يزال في القوات الجوية الأميركية، كتب هانتر طومسون في عدد من الصحف والمجلات بما فيها أوراق بحثية. كان معروفاً بتمرده، فقد سُرّح من القوات الجوية لانتهاكها عدداً من القواعد ولدخوله في صراع مع محرّرين يعملون في هذه المؤسسة. في عام 1964، انتقل إلى سان فرانسيسكو حيث بدأ الكتابة في صحيفة «سبايدر» البديلة والسرّية في بركلي، كما انغمس للمرة الأولى في أسلوب حياة المخدرات والهيبيز. وبعد فترةٍ وجيزة، وافق على مهمّة تغطية عصابة الدراجات النارية الخارجة عن القانون، المدعوّة بـ«ملائكة الجحيم» والتي سيطرت على المشهد الكاليفورني إبان الخمسينيات والستينيات.
من المفترض أن المحرر بيل كاردوسو هو الذي صاغ المصطلح عام 1971 لوصف مقالة هانتر طومسون عن «الديربي»، حيث دهش بعد قراءتها، معبّراً: «هذه هي! إنها غونزو صافية، إذا كانت هذه البداية فاستمروا!». بالنسبة إلى كاردوسو، فإن «الغونزو» هي كلمة عامية إيرلندية تدل على آخر من يستطيع الصمود بعد ماراثون شرب الخمر طوال الليل. بعد فترة قصيرة وفي عام 1973 قال طومسون إنه أخذ هذه التسمية من المحرر بيل كاردوسو شارحاً معناها كالآتي: «إنها كلمة رائجة في بوسطن ترمز إلى كل ما هو غريب وعجيب». ومن الممكن أن تكون هذه الكلمة (غونزو) على صلة بمصطلح «غونزو» النابولية الإيطالية أو كاشتقاق لغوي منها، والتي تعني «فظّ سكير»، ما يجعل هذا المصطلح أفضل وصف موجز لأسلوب طومسون: صحافة فظّة مخمورة حرّة.
لكن «الغونزو» لا تتقصد أن تكون فظّة بشكلٍ مباشر ولا تعمد أن تكون استفزازية. إلا أن سردها للأحداث والبنية التي تُشكلها، وتماهيها إلى حدّ الامّحاء مع مؤلفها يجعلها كذلك. صفات مثل الجنون، عدم الخوف، التهوّر، كثرة التوصيف، إثارة السخرية، الكاريكاتورية، تُشكل جوهر الغونزو التي تشكّل بدورها نقداً اجتماعياً ساخراً يأتي من منظور الشخص الأول (الكاتب/ الفرد وبصيغة المتكلم). فالمؤلف هو بطل القصة التي تترنح ما بين قطبَي التراجيدي والفكاهي. كما أن الغونزو هي صحافة متعنّتة وقاسية، يعتنق صاحبها الذاتية والانغمار التام بدلاً من الموضوعية أو النأي بالنفس لإظهار الحدث كما هو عليه. وبالإضافة إلى ذلك، فإنها تنتهج الدقة والوصف اليقظ في ما يتعلق بالتجارب والمشاعر الشخصية ليكون الكاتب عندها، وعلى عكس الصحافة التقليدية، يُضاهي أهمية الموضوع المبغي أو أحياناً أهمّ منه.
سابقاً، أي خلال السبعينيات، كتب هانتر طومسون عن ريتشارد نيكسون الكثير من النقد اللاذع والفج، واصفاً إياه بأنه «الجانب المظلم المرتشي للطابع الأميركي العنيف الذي لا علاج له، والذي تعلّمت أن تهابه وتمقته كل دولة في العالم تقريباً». بعد موت نيكسون عام 1994، كتب طومسون في مجلة «رولينغ ستونز» مقالاً بعنوان «كان مخادعاً» ينعى فيه الرئيس المتوفى بطريقته المعهودة، مازجاً بين السخرية والنقد، فصرح آنذاك «كان ريتشارد نيكسون هو الذي ورّطني في عالم السياسة، ومع رحيله أشعر بالوحدة... طالما كان نيكسون حيّاً سياسياً كنّا دائماً متأكدين من العثور على العدو بـ«الطرق الملتوية»».
لم ينقض الأمر مع وفاة ريتشارد نيكسون. لقد ورثت أميركا عام 2016 وحشاً آخر، تمثّلت أهدافه بجعل أميركا عظيمة مجدّداً. أرجعنا ترامب إلى حقبة نيكسون، فليس من المستغرب أنه خلال السنوات الأربع الماضية زاد الاهتمام في إعادة إحياء صحافة الـ«غونزو». أجمع الكثيرون على ضرورة وجودها في عالم الصحافة. لو كان هانتر طومسون حيّاً اليوم لكان طبع مقالاته عن نيكسون مجدّداً، لكن مع تعديلات طفيفة في الزمان والمكان. ومن دون أدنى شك، كان ليربط بين نيكسون وترامب لناحية «الجانب العنيف للطابع الأميركي الذي لا علاج له» بحجّة «أنه يتكلّم من جديد لمصلحة المستذئب الذي فينا»إ إذ إن ترامب مخادع مثل نيكسون، وهو مبتذل ومقيت، أو بعبارات طومسون نفسه «يجب أن يدفن في البحر... لكنه على الرغم من كل شيء، هو الرئيس». رائد صحافة الغونزو قد يكون بالفعل كتب هذه الجمل منذ خمسين عاماً، وقارع الاستبداد بكلماته وألاعيبه اللغوية والأسلوبية الفريدة، وهذا ما يجعله معاصراً على نحو قريب. واليوم، وبالنظر إلى الاضطراب الذي ما زال يعصف في العالم، وداخل الولايات الأميركية المتحدة، نحن بحاجة إلى أن نكتب أقل عن هانتر طومسون على أن ننتهج أسلوبه أكثر.