كانوا شبّاناً في ذروة المراهقة، أكبرهم كان يبلغ السابعة عشرة من عمره. يساريّو النزعة، جبليّو البيئة، آمنوا بأنفسهم حين لم يؤمن أحد بهم. وعلى قاعدة معاناة الأطراف مع المركز، فالمعادلة نفسها لم تشذّ مع أعضاء «فرقة الجبل» الذين حملوا البنادق والآلات الموسيقية في آن واحد. هذا توصيف حقيقي، وليس بيتاً من قصيدة أو عنواناً لمقالة في صحيفة حزبيّة، لأنه نابعٌ من تجربة حقيقيةٍ. الطريف في الأمر كان ثقل الأكورديون نسبة إلى وزن الكلاشينكوف، هذا ما كشفه لنا بسام ضوّ، أحد أعضاء «فرقة الجبل»، الفرقة التي صنعَت العديد من الأغاني وأنتجت شريطاً واحداً عنوانه «جايين»، فكان تسجيله، وتمويله، ومن ثم ترميمه، أشبه بطريق الجلجلة لم ينس أبطال الفرقة شقاءها. ستتحسَّس ذلك الأسى في نبرات أصواتهم حين يسترجعون تلك الأيام: موسيقيون انتشروا في الأرجاء كمقاتلين، من محاور الجبل حتى قرى الجنوب، في قلعة الشقيف وزوطر والنبطية.
تركيب «البازِل»
في عام 1978 بدأت تتشكل إرهاصات فرقة «الجبل» التي عاشت لسنتين فقط. وكأنّ هؤلاء الحالمين قد ناضلوا موسيقياً ليضعوا توقيعهم إلى جانب المغنّين الذين سادت أغانيهم في تلك الفترة وشكّلت مرحلة موسيقية زاخرة. لكن «فرقة الجبل» لم تجد يداً ممدودة لها، تسندها وتساعدها لإكمال مسارها. خلاصة تجربتهم تؤكد أن موسيقاهم كانت أكبر من أعمارهم فيما أعمارهم كانت أصغر، بكثير، من جبهات القتال.

من أرشيف عبدالله المصري

تأسّست «فرقة الجبل» على يد عبدالله المصري (مؤلف موسيقي، عازف غيتار، ومغنّ)، بسام ضو (ملحّن، عازف أكورديون)، مروان ضوّ (إيقاع، غيتار وغناء)، فيصل القنطار (ملحن ومغنّ) ثم انضم ناجي هلال على الكمان، وتميم هلال على العود. شبّان من صاليما، والمتين، والقريّة... هم أبناء شرعيون للمحاور. مع اشتداد الحرب، تهجّر بعضهم من بلدته نحو قرى أقل خطورةً، فكانت دراسة الموسيقى تُستقى من أساتذة في بلدات قريبة، مثلما حصل مع عبدالله المصري الذي تلقّى أصول الموسيقى من الأستاذ عيسى سكاف، لتتعزّز المراجع مع كتب كان يرسلها شقيقا المصري وضوّ من الاتحاد السوفياتي حيث كانا يدرسان، إضافة إلى الأسطوانات العالمية التي تشبّعوا منها، سمعاً وتدقيقاً، بالإضافة إلى التأثّر بتجربة الأخوين رحباني كما المتابعة الدقيقة من قبل خالد الهبر، ثم مرسيل خليفة وزياد الرحباني.

هامة بلا ظهر
حين شرع عبدالله المصري وباقي الرفاق لإنجاز الكاسيت الأول للفرقة لم يجدوا مموّلاً أو جهة تتبنى إنتاج أغانيهم. حتى الحزب الشيوعي الذي كانوا يقاتلون في صفوفه قد تعامل معهم باعتبارهم شبّاناً موهوبين لا أكثر، بل إن أحد المسؤولين الحزبيين استهزأ بهم قائلاً: «أصواتكم نشاز يا رفاق».
هي مرّات قليلة غطّى فيها الحزب الشيوعي مصاريف تنقلاتهم، حيث كانت المهرجانات تقام في القرى أو في المخيّمات. النبأ السعيد الذي كان يفاجئهم آنذاك، كان عندما تتواجد الميكروفونات في الحفل، ليقترب الأداء عندها من النقطة الاحترافية الأعلى. بيد أن الحال لم يكن مترفاً دائماً معهم، فقد طاول الشحّ وأهوال الحرب أحوال «فرقة الجبل»، قيّدتها وحرمتها من مستقبل واعدٍ.

من أرشيف عبدالله المصري

وعلى عكس فرقٍ أخرى، ومغنّين ملتزمين آخرين، مثل «فرقة الأرض» التي تلقّت دعماً من المنظمات الفلسطينية، والحال نفسه مع خالد الهبر، كما كان الحزب الشيوعي يرعى ويسهّل الحفلات لمرسيل خليفة في الخارج، والقيادي الشيوعي كريم مروّة خير شاهد، إذ صرّح في حوار مصوَّر له أنه اتصل بنفسه بالحزب الشيوعي الفرنسي طالباً منه تنظيم حفلات لخليفة ضمن سلسلة من النشاطات التي يحييها اليسار هناك فشكّلت تلك الحفلات وثبة مبكرة في مسيرة مغنّي «وعود من العاصفة»، كانت «فرقة الجبل» يتيمة، تشق طريقها وحدها، وتقاتل على جبهاتٍ عدّة. يخبرنا عبدالله المصري: «كان الكورس الشعبي يسجل أغنية، وفي اليوم التالي كنا نسمع هذه الأغنية على الإذاعات. أما نحن في «فرقة الجبل»، فكنّا نجهد لتأمين نفقات ذهابنا إلى بيروت، وإذا نجحنا في تأمينها تكون معجزة المعجزات». عن عبدالله المصري، سيخبرنا زميله في الفرقة بسام ضو: «كان عبدالله المصري أكثرنا موهبةً وقدرةً على العزف ويتمتع بشغف الدراسة الموسيقية. كان أكثرنا نشاطاً في إدارة جلسات التدريب، والبحث عن أغنياتٍ تشبهنا، ووضع توزيع موسيقيّ جديد لها لنؤدّيها في الحفلات «الشعبية» المحلية». يتذكر بسام الضو جيداً الحفلات التي نظّموها. يخبرنا: «ولم يطل الوقت حتى صرنا اسماً حاضراً في ساحة ما عُرف وقتها بـ«الأغنية الوطنية» أو «الأغنية السياسية». فقد أحيينا عشرات الحفلات في بيروت، والعديد من الحفلات في قرى وبلدات في الشمال والجنوب والبقاع والجبل حيث حضور الحركة الوطنية كان كثيفاً يومها في تلك المناطق. كما أنه أصبح لدينا آنذاك رصيد مقبول من الأغنيات الخاصة، غالبيتها كانت بتوقيع عبدالله المصري، الذي لم يقف طموحه على أداء الحفلات، بل أصرّ على حفظ أغنياتنا في شريط كاسيت، ما شكّل تحدياً إضافياً لنا، لناحية انعدام مصادر تمويله، وخصوصاً من الذين اعتادوا أن تشكل حفلاتنا مصدر ريعٍ لهم، لا العكس! فكان أن انبرى الراحل الدكتور طليع المصري (شقيق عبدالله) والشهيد سليم ضو، شقيقي، لهذه المهمّة، ولكن بالحد الأدنى من التكاليف. ولن أنسى تلك الأيام التي أمضيناها في مركز «اتحاد الشباب الديمقراطي» في منطقة «الوتوات»، مكتفين بألواح الشوكولا كوجبات طعام يومية». الحديث مع عبدالله المصري وبسام ضو سيقودنا، بعد أن تعرفنا قليلاً إلى الطابع الموسيقى للفرقة، إلى سؤال حول كلمات أغانيهم. يجاوب عبدالله المصري عن هذه المسألة بقوله إنهم لم يتمتعوا بالنضج الكافي لاختيار أفضلها. لذلك، فقد لجأت الفرقة إلى اختيار كلماتها من قصائد محمود درويش، أو محمد الفيتوري، أو توفيق زياد، أو بعض مما قرأوه في جريدتي «النداء» أو «الأخبار»، لذلك، تُرصَد الفرقة بشكل أعمق من الزاوية الموسيقيّة، حيث يشعر المستمع بخصوصية ما قدّمته «فرقة الجبل» بتضفير الثوري بالوجداني بسلاسة شاعرية خالية من الصراخ. كانوا واعين لما يفعلونه، كانوا متميزين أسلوبياً بحيث إنهم لم يشبهوا غيرهم على الساحة آنذاك.

إنجاز كاسيت «جايين»
ما إن نضج الألبوم في المخيّلة، حتى تحولت بيروت إلى محجّ واجبٍ لتحويل الفكرة إلى صوت محفوظ في كاسيت. في تلك الأيام من عام 1980 دأب عبدالله المصري وبسّام ضو، على أخذ أي وسيلة نقل، مهما كان نوعها، بغية الوصول إلى منطقة «القنطاري» في رأس بيروت، حيث استديو التسجيل الذي يملكه عصام الحاج علي، قبل انتقالهم إلى استديو الاتحاد، ومن بعده إلى استديو «BY PASS» التابع لزياد الرحباني، الذي كانت تجهيزاته حديثة، وحيث سيتم إنتاج الألبوم فيه. تعرّفت «فرقة الجبل» إلى زياد الرحباني عن قرب، وشارك معها كعازف على البيانو في ست أغان من أصل عشر تشكل مجملّ الشريط.
في أعمارهم الصغيرة تلك، كان كل شيء جديداً عليهم. كان كل شيء مدهشاً: ماكينات، أزرار، وتسجيل كل آلة بشكل مستقل في غرفة صغيرة منعزلة. لم تكن المهمّة سهلة عليهم فقد واجهت التسجيلات صعوبات تقنية تتعلّق بالأجهزة، كما أن بسام ضو اضطر للسفر إلى السعودية بعد أن لاحت له فرصة عمل، ليبقى عبدالله المصري في تلك الجلجلة السيزيفيّة التي بدت له طريقاً طويلة لن تنتهي أبداً. انتهاء التسجيل كان أشبه بنصرٍ مدّو. عندما رأى الكاسيت الضوء، باشروا بنسخه، وراح أبطال الفرقة يوزعونه، ويبيعونه، بشكل فردي، بقدر ما استطاعوا. نجح شبان «فرقة الجبل» في تحقيق حلمهم. لم يتحلّوا برغبة القيام بخطوة تالية من هذا النمط من الغناء الملتزم المنبجس من ركام الحرب ويوميات النار. ولكن، بعد أربعين عاماً، أصرّ عبدالله المصري، وبعض من رفاقه، على ترميم تلك الأغنيات، ومعالجة ما أصاب بعضها من تلف، ليعيدوها إلى الذاكرة بواسطة نشرها على اليوتيوب. يذيّلها تعريف وشرح، نقتطع منه: «هذا الإصدار هو استعادةٌ للنسخة الأصلية، خضعت فيها التسجيلات (على كاسيت وريل) لعملية ترميم دقيقة، بهدف إعادة إحياء الصوت فيها، بعد ما لحق به من تلف نتيجة تقادم الزمن، وإضافة التسجيلات والخطوط اللحنية التي سُجلت إنما لم يكن بالإمكان دمجها، بسبب التقنيات الضعيفة يومها، لكنّ الأساس في هذه الاستعادة هو أنها حافظت على جوهر التنفيذ كما هو في الأصل».

«جايين»
عدنا إلى أغاني الشريط المرمّم (ست من أصل عشر)، لننصت إلى تلك الأعمال المعنونة على الشكل التالي: «بيروت»، «مليون شمس في دمي»، «حنين»، «لن أرحل»، «نشيد الرجال»، وعنوان الألبوم: «جايين». سينتبه المستمع إلى ذلك الخيط السرّي الذي يجمع تلك الأغنيات ببعضها، في نسق واحد، بهوية منسجمة النبرة والإيقاع. الغناء لمروان ضوّ، وفيصل القنطار، وعبدالله المصري، وندوى القنطار، والمجموعة.
مع الانتهاء من سماع الأغنية الأخيرة من هذا العمل، ستخرج بخلاصة أن هؤلاء الشبان كانوا أصحاب موهبة مختمرة، وخطّ بياني واضح، لا يتفوق على باقي الإصدارات المشابهة لأحمد قعبور وخالد الهبر ومرسيل خليفة إن أردنا المقارنة، لكنّ أغانيهم في الوقت عينه، ليست أقل مكانة من الأغاني التي صنعها المكرّسون. ثمّة جمل سلسة على الأذن تتوغّل لتحاكي الوجدان. حتى إنك وبعد سماها لبضع مرّات، تجد نفسك متورطاً في تردادها.

مع فرقة «الميادين»
من خلال المخيمات التثقيفية التي كان ينظمها الحزب الشيوعي، واتحاد الشباب الديموقراطي، حصل التعارف بل والمشاركة في الحفلات التي كان يحييها مرسيل خليفة، وخالد الهبر، وأحمد قعبور. هذه الأجواء قادتهم لأن يخطوا خطواتهم باتجاه احتراف الموسيقى والأغاني فاقتضت الضرورة بأن تركن «فرقة الجبل» جانباً، ولأوقات طويلة، حيث شارك المصري وضوّ والقنطار، وغيرهم، في فرقة الميادين مع مرسيل خليفة، حتى إنهم كانوا هناك قبيل دخول أميمة الخليل الفرقة.
مع «الميادين»، ذهب أبناء «الجبل» رفقة مرسيل، إلى أوروبا وأميركا، لإحياء سلسلة حفلات، على مدى أشهر طويلة، ولم تكن ظروف السفر مريحة بقدر إدراجها ضمن النضالات التي اعتادوها في الخنادق فلم ينزلوا في غرف مستقلة، بل كانو يستلقون هنا وهناك، في أروقة الفنادق، أو في بيوت أصدقاء وحزبيين. كان كل ذلك بدون تقاضي أي أتعاب ماديّة. «لقد كنّا في حزب الفقراء» يقول عبدالله المصري بمزيج من الأسى والخيبة، ثم يضيف: «...لكن، في الوقت عينه، كان غيرنا يتقاضى أجراً على عمله الفنّي!» كان المصري أوّل من غنّى مع مرسيل «منتصب القامة أمشي» كما أنه يتذكر ألبوم «أحمد الزعتر»: «شاهدت، وواكبت مرسيل وهو يكتب نوطات أحمد العربي. تابعته وهو يدوّن تلك اللكنة الخاصة به. اللهجة الهارمونية».
عن تجربة «الميادين» يروي بسام ضو: «كان الانضمام إلى «الميادين» حلم الكثيرين، كونها كانت الفرقة الأكثر شهرةً وإحياءً للحفلات في لبنان وخارجه، لكنّه في المقابل لجم اندفاعة «فرقة الجبل»، وحرمها فرادة هويتها وشخصيتها الفنية، وهذا ما لمسناه لاحقاً ومتأخرين، قبل أن تلعب الأقدار بمصائرنا، فتأخذ عبدالله إلى موسكو لمتابعة دراسته الموسيقية، وتأخذني إلى عالم الإعلام معدّاً ومقدّماً لبرامج ثقافية وفنية في إذاعة «صوت الجبل»، ولاحقاً مديراً لتحرير مجلات في لبنان ودبي، كما أخذت فيصل إلى المحاماة، وناصر إلى الخليج، ومروان إلى الحياة الآخرة...».

من صاليما إلى تشايكوفسكي
مثل أي قصّة يتوهج مزاجها الدرامي تصاعدياً بحيث إن المتلقّي يتماهى مع البطل حين يحاول الأخير، وحين يقع ثم يقف، ويكمل الطريق. بالحيثيات الدرامية نفسها، تابعت «فرقة الجبل» مسارها، كروح تقمّصت أجساداً ثانية، لتكون النيرفانا متمثلة بلحظة الذوبان في الموسيقى المجرّدة، إذ في حمأة الحرب، تحوّلت الموسيقى إلى منفذ خلاصيّ لهؤلاء المغامرين، وتحديداً لعبدالله المصري الذي اعتنق «خطوط» النوطات كآيات في كتاب مقدس، فصنع الضوء وتبِعه، قافزاً نحو كونسرفاتوار تشايكوفسكي في الاتحاد السوفياتي (وهو من الأهم في العالم)، لتمتد دراسته هناك على مدى 12 عاماً، ويصبح المصري اليوم من كبار المؤلفين الموسيقيين، وقائد أوركسترا، تُعَدّ رسائل الدكتوراه حول موسيقاه.
بهذه المشهدية يتماهى المتابع بأبطال الحكاية، فلا يرضى بالنهايات الركيكة. كان من الضروري أن يتحقّق الإنجاز، لنعود إلى الجذور ونحتفي بهؤلاء الناجين، ولن نخجل بوصفهم مجانين، وبذلك لن يكون عفوياً فعل الرجوع إلى الكاسيت المهشّم بفعل الزمن، ليكون الترميم ما فوق استنقاذ للأغاني. بدا الفعل كغوص في الذاكرة المشوَّهة، لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ليستوي الجسد بلا ثقوب، ولا ندوب، كأن «جايين» ترجمة لعودة هؤلاء الفتية، بعد أربعين عاماً للانتقام من الزمن الذي خذلهم ذات حرب، ذات حلم.

لمحة عامة عن «فرقة الجبل»
عبدالله المصري: غناء، طبول، غيتار وباص
بسام ضو: أكورديون، كيبورد وغناء
فيصل القنطار: غناء
مروان ضو: إيقاع وغناء
بشير ضو: إيقاع وغناء
ندوى القنطار، سلام المصري، يسرى الزرعوني: غناء
بالإضافة إلى مشاركة زياد الرحباني على البيانو، ميشال أسعد: ترومبون. أحمد الحافي وبسام سابا: فلوت. أنطوان خليفة، أنيس حاوي، ميشال سلفيتي: كمنجات، طوني وهبة وهدى أسعد: غناء.
التوزيع الموسيقي: عبدالله المصري. التسجيل في استديو BY PASSE واستديو عصام الحاج علي واستديو الاتحاد.
غلاف الألبوم: جميل ملاعب. ترميم الكاسيت: ألكسندر ڤولكوف وهاني سبليني.