تتغير أسماء المدن عبر الزمن وتتحول، ولكن منذ أكثر من 4 آلاف سنة واسم حلب هو حلب. هكذا عرفها الملوك البابليون وهكذا نعرفها اليوم. فالمدينة التي سكنها الإنسان بلا انقطاع، تعدّ من أقدم المدن المأهولة في العالم. تنضح بهويتها الثقافية والتراثية، وسكانها لا يتلمسون تاريخها في المواقع الأثرية فحسب، بل في الأسواق والجوامع والمكتبات والخانات والكنائس. يرون هذا التاريخ شامخاً أمام عيونهم كلما أداروا وجوههم باتجاه القلعة، ويسمعونه كلما غنوا القدود الحلبية التي بدأت قبل 1700 سنة كترانيم في كنائس حلب. وبذلك فإنّ العلاقة بين حلب وتاريخها ليست مبنية على دراسة الماضي، بل على إحيائه يومياً.
كانت حلب منذ تأسيسها مركزاً للسلطة العسكرية والسياسية والاقتصادية. وكان الموقع الاستراتيجي للمدينة كمحور بين الداخل والساحل، سبباً لتدميرها بصورة دورية منذ الألف الثاني قبل الميلاد. هكذا، لم تسلم حلب من غزوات البابليين والآشوريين والحثيين والفرس، وكانت لها ممالك خاصة بها تنشط في التجارة. وعندما وصل الإسكندر المقدوني إلى المدينة سنة 333 قبل الميلاد حوّلها قائد جيوشه سلوقس الأول إلى مستعمرة أساسية، وبناها بالشكل الهندسي الهلنستي، فكان تصور الأسواق الطويلة منذ ذلك العصر قبل أن تتطور وتنمو وتكبر.
مع الرومان، أصبحت المدينة مركزاً تجارياً مهماً، ومع المسيحية عرفت الديانة انتشاراً واسعاً في المناطق الحلبية المحيطة بها، ومع فتوحات خالد بن الوليد دخلت حلب في الإسلام، وكانت جزءاً من الدولة الأموية مؤسسةً لعصر ذهبي. لم تخضع المدينة يوماً لجيوش الصليبيين، ولكنها عرفت وحشية المغول، فدمروها أكثر من 3 مرات في حروبهم مع المماليك. وحينما دخلت المدينة في كنف السلطنة العثمانية، عرفت أربعة قرون من الاستقرار والازدهار، فكانت المدينة الثانية في السلطنة بعد إسطنبول التي كانت تمر بها طرق تجارة الأناضول وميناء إسكندرونة. إلى ذلك، كبرت أسواق حلب المغطاة لتصل إلى طول 12 كلم وبدأت تنمو سلالات راسخة من التجار والشخصيات السياسية البارزة، وخصوصاً أنّ السفراء الأوروبيين والإرساليات في السلطنة العثمانية كانوا يسكنون فيها. لكن المدينة العريقة خسرت دورها التجاري الإقليمي مع تأسيس جمهورية تركيا، فقطعت أوصالها عن الأناضول والإسكندرونة وتحولت المنافسة مع دمشق إلى خسارة. وفي غضون ثلاثة عقود من الزمن، انتقل الحكم والازدهار من حلب إلى دمشق. ومع ذلك فالتغيير في السياسة لم يغيّر المعالم التاريخية، وبقي جمال حلب ورونقها وغناها بالمعالم التاريخية المتنوعة سبباً لتصنيفها عام 1986 من قبل منظمة اليونسكو على لائحة التراث العالمي. في عام 2006، صنفت عاصمة إسلامية للثقافة. قبل سنوات، انقطع التيار الكهربائي في أسواق حلب. دخل التجار إلى مخازنهم، وخرجوا يحملون الشموع ويضعونها على الطاولات الخارجية. فجأة بدت الأسواق وكأنها عادت في التاريخ 500 عام. تاريخ لا يقتله الزمن.