«العدلية» ليست بخير. العبء فوق قُدرة الاحتمال. القضاة يُحاربون بـ«اللحم الحي» ، بعدما أُلغيت تشكيلات ملء الشواغر التي عوّل عليها كثيرون. أما حال القرف والتأفف، فباتت خبزاً يومياً لقضاة ملّوا ضغط الملفات في ظل الواقع المزري المستمر في قصور العدل. وسط كل ذلك، تبرز ثغر يجهد «ولاة الأمر» في العدلية لتلافيها عبر بذل ما أمكن، وفق قاعدة «لا يُكلّف الله نفساً إلّا وسعها». وجديد قصر العدل في جبل لبنان هذه المرة تكليف القاضي هنري خوري شغل منصب الرئيس الأول بالإنابة، بعد إحالة القاضي شهيد سلامة على التقاعد في ٢٨ الشهر الماضي. وبذلك بات خوري يتولّى هذا المنصب الشاغر، إلى جانب منصبه الحالي رئاسة محكمة الجنايات في جبل لبنان، إضافة إلى ما يفرضه المنصب الجديد من تولّيه تسيير وإدارة شؤون العدلية اليومية.
إزاء ذلك، يكشف قضاة لـ«الأخبار» أن «التكليف غير قانوني»، باعتبار أن «القاضي المحال على التقاعد هو من كلّف خوري خلافته». ويرى هؤلاء أن ذلك لا يجوز، لا سيما إذا كان التكليف مفتوحاً وغير محدّد بأمد. ويشير أحد القضاة إلى أن قانون «تنظيم القضاء العدلي» يفرض اقتراح وموافقة كل من مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل على تعيين البديل المُنتدب، لافتين إلى أن هذا التكليف أطاح العرف المُتّبع لجهة أن الخلف يجب أن يكون الأكبر سنّاً والأعلى درجة. ويُعطون على ذلك مثالاً ما حصل في قصر عدل بيروت حيث توّلت القاضية الأكبر سنّاً ميسم النويري منصب الرئيس الأول بعد شغوره. ويُعرب هؤلاء عن تبرّمهم مما تسبب فيه هذا التكليف لجهة تأخير صدور الأحكام المنظورة أمام محكمة الجنايات التي يرأسها خوري أيضاً. هكذا، يرى القضاة أن خوري حُمّل فوق استطاعته. فقد صار يجلس قبل الظهر في محكمة الاستئناف المدني للنظر في أحكامها، ما يؤخر حكماً الجلسات المنتظرة في محكمة الجنايات التي ينتقل إليها مباشرة بعد انتهائه من المحكمة الأولى. وإذ ذهب قضاة إلى القول إن خوري وافق على التكليف وتحمّل العبء المترتّب عليه «طمعاً بما سيناله من برستيج أن يكون رئيساً أوّل»، يتحدّث آخرون عن ملامح انهيار وتقصير محتّم سيصل إليهما خوري إن طال أمد تكليفه، متسائلين: «هل فرغت العدلية من القضاة الكفؤين ولم يعد هناك سوى هنري خوري؟».
في مقابل ما يتردد، تكشف مصادر قضائية رفيعة لـ«الأخبار» أن «رئاسة الغرفة الأولى متروكة تدبيرية»، مشيرة إلى أن القاضي خوري كُلّف بموافقة مجلس القضاء الأعلى. أما ما يُثار لجهة إطاحة عُرف تكليف الأكبر سنّاً، فتؤكد المصادر نفسها أن السن ليست ملزمة في التكليف، علماً أنها أشارت إلى أن خوري كُلّف بعدما رفض القاضي الأكبر سنّاً خالد زودة التكليف. وفي مسألة أن المنصب مطوّب لطائفة الروم، والتكليف خالف العرف الطائفي، بشغل ماروني لمركز كاثوليكي أو أرثوذكسي، ذكرت المصادر نفسها أن «ذلك مُلزم في حال أُجريت تشكيلات قضائية، يُعيّن بموجبها قاضٍ أصيل من الروم، أما التكليف بالإنابة فلا يفرض مراعاة هذا المعيار». وفي السياق نفسه، تتحدث مصادر أخرى عن استبعاد القاضي الياس الخوري الذي كان مرشّحاً لهذا المنصب لأنه «من المغضوب عليهم لدى مجلس القضاء الأعلى»، علماً أن المعايير المطلوبة لشغل المنصب موجودة في خوري الذي يرأس اليوم محكمة استئناف الجنح، إذ إنه من طائفة الروم الأرثوذكس، فضلاً عن أنّه «الأكبر سنّاً والأقدم عهداً في القضاء في بعبدا»، أي أن الأخير موجود في سلك القضاء منذ ٣٥ عاماً فيما دخل هنري خوري السلك من مهنة المحاماة في العام ١٩٩٤.
وتطرقت أحاديث العدلية إلى أن القاضي خوري استبعد القاضية ماري ليّوس التي كانت مستشارته، وانتدبها قاضياً منفرداً جزائياً. علماً أن الأخيرة لم تحضر إلى الدوام منذ انتدابها. وفيما عُزي سبب انتدابها إلى أن هيئة محكمة الجنايات لم تكن منسجمة، كشفت مصادر قضائية أن القاضية ليّوس تمر في ظرف صحّي صعب، جرى استبدالها بالقاضي ربيع المعلوف. وفي هذا السياق، ذكرت مصادر مقرّبة من القاضية ليّوس أنّ الأخيرة من أكثر القضاة جدارة، لكنها تكره القضاء الجزائي وتُفضّل عليه القضاء المدني. وأشارت المصادر إلى أنها طلبت تشكيلها مدنياً، لكنها فوجئت بتعيين مستشارة في محكمة جنايات جبل لبنان لتبدأ الخلافات مع رئيس المحكمة.
وبعيداً عن الجدل المثار، سُجّل للرئيس الأول المكلّف (خوري) عدد من النقاط على إجراءات اتّخذها. فقد شدّد على منع السماسرة، وبائعي القهوة، من الدخول إلى العدلية. وطلب من عناصر الدرك تحرير محاضر ضبط بحق مخالفي قانون منع التدخين، ولو كانوا من المحامين. كما نقل قلم السير من الطبقة الأولى إلى الأرضية، للحؤول دون تجمّع المواطنين أمام مكاتب القضاة، لكن ذلك فاقم من الازدحام الذي كان يُنظّمه أحد القضاة أمام مكتبه.
كذلك علمت «الأخبار» أن الرئيس الأول المكلّف طلب تركيب خزانات مقفلة لترتيب الأقلام، بالتعاون مع بلدية بعبدا الذي جال رئيسها منذ أيام في أروقة العدلية.
في موازاة ذلك، تسود «عدلية بعبدا» حال استياء من «قرارات اعتباطية» يقول قضاة لـ«الأخبار» إن خوري اتّخذها، فيكشفون أن الرئيس الأوّل المكلّف منع أي قاضٍ من القضاة المنفردين الجزائيين أن ينوب عن أحد. ويرى هؤلاء أن ذلك يُعرقل العمل في العدلية ويتسبب في إطالة أمد التوقيف، بعدما مُنع القاضي المناوب من بت أي إخلاء سبيل. فعلى سبيل المثال، كان يكفي، في حال توقيف أحدهم بموجب مذكرة توقيف في قضية شيك من دون رصيد، وحصل الموقوف على إسقاط شخصي من المدّعي، أن يكلّف الرئيس الأول القاضي المناوب بت طلب إخلاء السبيل في حال غياب رئيس المحكمة. هذا لم يعد سارياً اليوم بعدما منعه خوري، حاصراً بت إخلاء السبيل برئيس المحكمة الناظر بالشكوى حصراً.
«التعصّب والتشدد مرادفان للّين والتراخي»، لكن ذلك لم يعد ينسحب على قضاة العدلية. المشهور هنا أن تشدّد القاضي بات يُعدّ وساماً له أمام مجلس القضاء الأعلى يحفظ له مركزه. واحدٌ من هؤلاء هو القاضي هنري خوري المعروف بـ«القاضي القاسي». يُشهد للأخير بكفاءته، لكن يؤخذ عليه غلظته في إصدار الأحكام.