مهما تبدلت السياسات الفرنسية، الخارجية والداخلية، فإن باريس تتشكل يومياً من خلال الوافدين إليها، هل قرأتم كتاب باريس العربية مثلاً؟ ساديو مصمم أزياء أفريقي، يطلق في العاصمة الفرنسية أزياء لكل الجنسيات
باريس ـــ جلنار واكيم
يجلس الرجل في محترفه ساعات طويلة إلى ماكينة الحياكة. تحيط به من كل الجهات أقمشة أفريقية من كل الألوان والنقوش. إنه ساديو بي يعيد الزي الأفريقي إلى الواجهة. منذ سنوات طويلة، يعمل بكد على عصرنة هذا الزي بهدف الحفاظ على الهوية الأفريقية، واستعمال أقمشة تلك القارة الملونة في إطار جديد. وهو يردد: «كما الهوية الأفريقية، الزي الأفريقي ليس مسألة فولكلورية وحسب، بل هوية معاصرة لها جذور تاريخية وامتداد من الحاضر نحو المستقبل».
هنا في هذا المحترف الذي يقع في حي متعدد الألوان عربي ـــ أفريقي ـــ لاتيني، كان لقاؤنا الأول مع ساديو. شارع يذكّر بضواحي المدن البرازيلية، أو بأزقّة في كولومبيا. يقول ساديو: «هنا أحس أنني في مكان يشبهني، وأنني مع أناس يفهمون قصتي وينتمون إلى هويتي».
«ولكن من أين أنت تحديداً؟» السؤال يثير ابتسامة الرجل، بهدوء يجيب: «أنا أفريقي، من أفريقيا». ويؤكد أنه لا يؤمن بالحدود التي وضعها الاستعمار «والتي شرذمت هوية الأفريقيين»، ثم يوضح أن والده غيني ووالدته سنغالية، ويضيف «اليوم أحمل أيضاً الجواز الفرنسي، فهل سأصبح فرنسياً؟».
من أفريقيا إلى باريس، رحلة مؤلمة يتحدث عنها ساديو بفخر، فهو يعرف أنها تجسد واقع الكثيرين من أولاد القارة السوداء. أمضى ساديو طفولته في السنغال مع عائلته. كان يقطن مع والديه وإخوته السبعة في حي شعبي في داكار. وكان والده خياطاً يفصل فساتينَ للسيدات وبدلات للرجال. وقد عايش ساديو (39 عاماً) عمل والده عن قرب، فالمحترف كان موجوداً داخل البيت نفسه. وكان ساديو يراقب تحوّل الأقمشة الأفريقية إلى بدلات أوروبية وفساتين من القرن السابع عشر، «كان القماش من أفريقيا، والتصاميم أوروبية. هو الاستعمار انتقلت عدواه في كل شيء، في أزيائنا ومشيتنا ولغتنا وطريقة تفكيرنا. كان هذا الأمر يزعجني. وكنت أعلم أن لا مهرب منه، فهو جزء من تاريخنا ومن حاضرنا. ولكن يجب أن لا يلغي أكثر ما فعل في
بلادنا».
من الأب انتقلت عدوى تصميم الأزياء إلى الابن. ومنذ سن الثامنة، أبدى ساديو اهتمامه بهذا العالم: «لا شك في أن انتقال المهنة من الأب إلى الولد أمر مألوف في المجتمعات التقليدية. ولكنني كنت مولعاً أكثر من إخوتي السبعة بهذه المهنة، وكان والدي يلاحظ ذلك».
بدأ ساديو يتعلم المهنة على يد والده، فاكتسب الخبرة والتقنيات اللازمة. في عام 1985، انتقل والداه إلى فرنسا، بسبب سوء الوضع الاقتصادي في السنغال. في بلاد الهجرة عمل الوالد خياطاً لأبناء الجالية الأفريقية. وفي عام 1990 لحق ساديو بوالديه، وللرحلة حكاية يشبهها ساديو بـ«السفر إلى القمر».
في ذلك الحين، لم تكن المشكلة تكمن في صعوبة الحصول على تأشيرة الدخول، بل بالضمان المادي الذي تطلبه السفارة الفرنسية. «كان علي أن أقدم ضمانات مادية تساوي عشرات المرات الدخل الفردي في داكار. كنت أعمل ليل نهار لتأمينه. وكنت أتساءل ما إذا كان الفرنسيون قد قدموا أية ضمانات للأفارقة عندما أتوا إلى أفريقيا».
ركب ساديو الطائرة باحثاً عن فرصة أفضل. من داكار الأفريقية إلى الحي الثامن عشر في باريس، وهو حي العرب والأفارقة، أحس ساديو أن أفريقيا كانت أوسع في فرنسا منها في داكار، وأحس بهويته الأفريقية تكبر بمواجهة عنصرية البعض والنظرة السلبية تجاه الأفريقي.
في باريس، عمل ساديو مع والده. ولكنه كان يلاحظ أن الزي الأفريقي بدأ بالتراجع أمام الجينز والأزياء الأوروبية الجاهزة. فراح يبحث عن وسيلة للحفاظ على هذه الأزياء، وكان يصرّ على أن تعجب ابتكاراته أبناء الجيل الشاب. وقدم تصاميمه الخاصة مستخدماً القماش الأفريقي ممزوجاً بأقمشة أخرى، لتكون أزياؤه متماشية مع الحياة العملية بما يجذب الزبائن الأوروبيين أيضاً. هو يدرك أن الأقمشة الأفريقية تناسب البشرة السمراء لأنها محملة بالألوان وبالتخطيطات، لذا مزجها بأقمشة أخرى. يستدرك ساديو، يتوقف عن سرد قصته ويقول محتجاً «ثمة شيء لم أفهمه. كان علينا نحن الأفارقة أن نتأقلم مع الأزياء الأوروبية التي لم تكن تناسبنا. ثم وجدنا طريقة لخلق مزيج بين التصميم الأوروبي والهوية الأفريقية. فلماذا لا يتأقلمون هم بدورهم مع هويتنا».
حين أطلق ساديو اسماً لتصاميمه: ساديو بي، الخليط في الحياكة. عارضه والده، خوفاً عليه من الفشل. ولكن ساديو كان واثقاً من فكرته «كنت أعرف أنها مخاطرة كبيرة، ولكنني كنت أؤمن بأن أرض أفريقيا الخصبة ستعطيني ما يلزم إن عملت بجهد. وبعدها بثلاث سنوات، سمعت بالقروض الصغيرة، فقدمت ملفاً ونلت قرضاً بثلاثة آلاف يورو.
كان المبلغ كبيراً بالنسبة لي، ومتواضعاً بالنسبة لتكاليف المشروع، فكان علي أن أستأجر محترفاً وأن أدفع تكاليف القماش والكهرباء والضرائب. ولكنني خضت المغامرة. وقد ساعدني الأصدقاء، فبعضهم صوّر عروضي، وآخرون طبعوا كتيبات عن تصاميمي»، وحملت له مجموعة من مضيفات طيران الشركة الفرنسية أقمشة من أفريقيا.
في جعبة ساديو الكثير من الكلام، يحكي قصته متقطعة، يقول جملة ثم يهرب إلى ماكينة الخياطة، يحوك زياً ثم يغرق في أفكاره من جديد، يتذكر تفصيلاً عن حياته، يرويه، يتنقل في المشغل، يحكي ويحكي... والكلام هو رحلة تحمله دوماً من أفريقيا ليعيدها إليها.


5 تواريخ مهمة يكررها ساديو على مسمع زواره، هي:

1969: الولادة من أب غيني وأم سنغالية
1981: بداية العمل مع الوالد في تصميم الأزياء في داكار
1990: الانتقال إلى فرنسا
1999: إطلاق تصاميم «ساديو بي»
2002: ساديو بي يقدم عروضاً في الولايات المتحدة ولندن مستوحياً تصاميمه من أفريقيا ومن المهاجرين الأفارقة في العالم