عبد الأمير الركابي *مدهش أن نسمع في بلاد «تنعم» بكارثة لا مثيل لها، عن تلقي نائب في برلمان الخضراء في بغداد المحتلة، لكمة أسقطته أرضاً. اللكمة وجهها له قيادي في أحد فروع حزب «الدعوة»، وعضو في البرلمان نفسه. طبعاً هذه المشاهد البرلمانية غير جديدة، فهي تحدث في إيطاليا وفي اليابان أيضاً. التعامل بالكراسي واللكمات دليل حيوية، مع أنه يعكس طبائع شعوب. الحادث العراقي ليس من هذا الصنف، لأنه أقرب إلى العقوبة الإضافية. تصرّف يصدر عن البعض عندما لا يجدون في القرارات أو العقوبات القانونية كفاية تشفي الغليل. فاللكمة جرت في ختام جلسة مستعجلة عقدها برلمان الخضراء، وأسقط بالإجماع الحصانة عن مثال الآلوسي الذي زار إسرائيل أخيراً للمرة الثانية. ما بدا غريباً أن النائب المطرود سبق أن زار إسرائيل عام 2004، ولم يكن لزيارته الأولى أي أثر على تعطيل انتخابه نائباً، بل هو خاض الانتخابات وقتها، وحاز الأصوات التي أهّلته للفوز بمقعده الحالي. وهذا ما تساءل عنه الآلوسي مندهشاً «ما حدا مما بدا؟». آخرون تساءلوا: ماذا مثلاً لو أعيد اليوم من جديد بحث قضايا مثل الدستور، أو النفط، أو مجمل الوضع الناشئ في شمال العراق، أو قضية كركوك؟
في 22 تموز الماضي، اجتمع العدد اللازم من البرلمانيين، واتخذوا موقفاً بشأن «قضية كركوك» الحساسة، أسقط بيد القيادة العنصرية الكردية. والأخيرة أيضاً صدرت عنها في حينه ردود أفعال عصبية ومندهشة، دلّت على قصور أكيد في فهم ما انتهى إليه التفاعل بين الأيدولوجيا والواقع في حالة العراق منذ الغزو إلى الآن. فحصيلة السنوات الخمس المنصرمة انتهت إلى إقرار ضمني بأنّ الوقائع زكت الموضوعات الأيديولوجية المؤسسة في القضايا الوطنية الأبرز. لقد جاء الأميركيون ورهط من «أعداء الأيديولوجيا» العراقيين، ليسقطوا بقوة الغزو «نظاماً أيديولوجياً كريهاً». فقد ظل صدام حسين على مدى 35 عاماً يعيش على ما قيل إنه أكاذيب وطنية وقومية واشتراكية وسيادية، استعملها مع وسائل أخرى ببراعة من أجل البقاء في السلطة على حساب المجتمع، وبالضدّ من إرادته ورغبته في الحرية أو تحقيق ذاته المرهونة بتعددية تكوينية وبنيوية تاريخية أصيلة.
هذا الفصل من التاريخ، كلّف العراقيين ما لا يحتمل من القهر والاستبداد والقسوة والتشريد، وتسبب في قتل الحركة الوطنية العراقية المعاصرة و«أيديولوجيتها»، وكلف البلاد خسائر لا تحصى في كل المجالات، قبل أن يسلمها للغزو والاحتلال. وباستعماله للأيديولوجيا الوطنية والقومية، تسبب في تآكل تلك الأيديولوجيا وابتذالها، ومهّد السبيل لسحقها بقدر ما وضعها في التصوّر العام في خانة مكروهة وفاقدة للمعنى والمصداقية، حيثما تطابقت في الأذهان مع صورته البشعة.
كل هذا، مع المتغيرات العالمية المعروفة، وفّر القاعدة لازدهار غوغاء موجة تبرير الاحتلال، أو التندر على مفهوم السيادة، أو التنكر بسخط لعروبة العراق، والاستهانة بمسألة الحقوق الحصرية في الثروات الوطنية. بينما تُركت قضية «وحدة الكيان» لمهب افتراضات بدائية، وتخطيطات ذهنية، تتحدث عن «الفدرالية» في بلاد بلا دولة ولا حركة وطنية، ولا أي اختبار للحقائق التصورية المطابقة للذات التاريخية.
وقد شهدنا مع الغزو وبعده، انحياز بعض من عتاة «الوطنية» لحفلة جلد الذات، والاقتصاص من ماض وجدوه حرياً بالشيطنة والتبرؤ، بما أنّه تطابق بفعل عجزهم التاريخي مع صورة قاتلهم، مصفّي وجودهم السياسي، ومشرّدهم في زوايا العالم. وحين جاؤوا، أثبتوا أن ما لحق بهم على يد الدكتاتور كان دليل موت تاريخي حلّ بهم وبه معاً منذ عقود لمصلحة الفراغ.
في بلاد البدايات والأساطير الأولى، غالباً ما تتكرّر المواجهة مع «الفراغ» مثل دورات ثابتة، بينما شدّة مكر التاريخ تفتح الأفق على إيقاع عريق من العودة إلى «البدء» أو «العماء الأول». فقبل الغزو، حين كانت الدولة تتحلّل وقبضتها ترتخي تحت الحصار، نمت ظاهرة «أدب الاستنساخ». وبعدما كان النشر محصوراً، تحت طائلة العقاب، بالدولة ووزارتها للثقافة، راح الشبيبة الشعراء يصدرون دواوين منسوخة كُتب على أغلفتها ثأراً من سني القمع: «صدر بترخيص من أمي» أو «صدر بترخيص من حبيبتي». تداول هؤلاء أيضاً بيانات كانوا يرمونها في الطرق أثناء عودهم الليلي من الحانات الرخيصة. أحدها يقول «لا آباء لنا ونحن نكتب من جديد على ورقة بيضاء». الدولة اليوم انهارت كلياً، ومع طغيان أشباح الموت، والمليشيات، وركام القوى الباقية من زمن ولّى، لم يتوقف صعود نبتة الشعارات الكبرى من قلب اليوميات العنيدة.
ولأن الأفق الأبعد للأفكار ما زال غامضاً، نهض من اللاوعي فعل المنظور الأسطوري، وسط انهيار شامل، فأوحى بإعادة إنتاج «قصة الخليقة الأولى» في قلب عالم اليوم. ذلك كان من التبريرات التي احتاج إليها العمال والنقابيون في البصرة، عندما بدأوا فجأة، ووسط ذهول الجميع، حملتهم ضد اتفاقات ومشاريع تبديد الثروة النفطية وبيعها للشركات الأجنبية.
برلمان الخضراء لم يصل إلى توجيه «اللكمة» فجأة. قبل ذلك، وفي 22 تموز الماضي، حين تفجر نزاع مصيري على كركوك، وقف العرب العراقيون من دون تردد ضد نزعات التوسع الكردي المحمومة والمسكوت عنها، وهو ما أرعب القادة الأكراد وتركهم مذهولين أمام احتمالات بدء نهاية مسار 1991ـــ2008، منذ أن أصبحت المناطق الكردية «محمية أميركية» منفصلة عن الحكومات المركزية.
المالكي، على الرغم من كل مناوراته وحملاته ضد الصدريين، عاجز الآن عن التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع الأميركيين. والمعلومات تقول إنّ السيستاني لم يجز له التوقيع. اللافت أن أحزاباً ومليشيات دينية كانت تفرض حتى على باعة العصير في الطرق وضع آلات تسجيل تواصل قراءة «المقتل الحسيني» بلا توقف طيلة النهار، قررت بمناسبة الانتخابات المقبلة، تغيير أسمائها وتبني أسماء علمانية: «المستقبل»، و«الأمة» وغيرها.
قصة الخليقة الأولى ممكنة الآن أيضاً، تبين أن الموقف الوطني من قضية النفط ليس موضوعاً أيديولوجياً، والبرلمان غير قادر، ولا يريد التوقيع على أية اتفاقات تفرّط به. العروبة أصبحت من جديد، وبالتجربة الحيّة، ضرورة. السيادة تقف بوجه كل من يريد توقيع اتفاقات استرقاقية، بينما تحوّل الأمر إلى أزمة ومأزق حكومي لا حل له. وحدة البلاد والكيان شأن لا حياة بغيابه. كل هذه حقائق تنبع متجددة في غمرة التجربة الكارثية تحت الاحتلال، وتنهض باعتبارها ثوابت وضرورات حيوية لا شعارات. هل الحقائق المذكورة بحاجة إلى أدلجة من أجل إثباتها أو تخطئتها المستحيلة؟ واضح أن تلك اللكمة قالت إنّ قضايا «الوطنية» مؤسسة على أصل يتطابق والوجود.
الخطوة اللاحقة تنتظر منطقياً اكتمال التصور. ربما هو أدنى من أيديولوجيا، وقبله لنتوقع تفاعل «الحقائق الناهضة» وسيرورة تمازجها. فالوقت المقبل سيفرض حتماً مثل هذا المآل. وإذا تحوّلت عملية الولادة المتفرّقة، أو المتتابعة لتلك الحقائق إلى تشكيل يعبر عن «حزمة شاملة»، سيكون بمقدورنا حينها أن نتهيأ لقفزة في الوعي الوطني يصعب التكهن بكل أبعادها منذ الآن.
الشيء الأكيد حالياً هو أن الحقائق الوطنية في العراق، وفي قلب الكارثة، انتصرت على الأيديولوجيا، وخاصة على موجة سعار «الأيديولوجيا المضادة للأيديولوجيا». لتسقط الأيديولوجيات... العراق ينتظر بعث الحقائق المؤسسة، متحولة إلى هوية.
* كاتب عراقي