«التغيير» الذي تحدث عنه الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما، عنى اختلافاً في رؤيته لأمور عديدة، مقارنة بما يطرحه المحافظون الجدد، وهذا الاختلاف يطال النظرة إلى التكنولوجيا ودورها، ففيما أرادها دونالد رامسفيلد سلاحاً يفيد أميركا وحدها في حروبها، يستخدمها أوباما وسيلة للتواصل مع الناس
غسان رزق
تبدو الخطوة الأولى للرئيس المنتخب في علاقته مع الإنترنت كثيفة الدلالة إلى حدّ الرمزية، بالمقارنة مع وقائع العلاقة بين المحافظين الجُدد. فقد سجّل أوباما سابقة بوضعه الخطاب الرئاسي الأول إلى الأمة على موقع «يوتيوب»، على هيئة شريط فيديو رقمي يمكن متابعته على الكومبيوتر والخلوي. ويعيد ذلك إلى الذاكرة الذعر الذي تحدث به السيئ الصيت وزير الدفاع الأميركي السابق رامسفيلد عن الخلوي، وخصوصاً بعدما نُشرت عبر الإنترنت صور التعذيب الشهيرة في سجن «أبو غريب»، التي تحوّلت إلى أيقونة بصرية تنطق عن وحشية العقلية الاستعمارية الجديدة. وبعدما نُشرت تلك الصور، صرخ رامسفيلد في غير مؤتمر صحافي أنه بات في وسع أي كان (وللمفارقة فالكلام هنا عن جنوده بالذات الذين أرسلهم عبر نصف الكرة الأرضية ليحتلوا العراق)، أن يلتقط صورة رقمية ويبثها عبر الإنترنت لتُصبح في متناول العالم أجمع. ولم يوضح رامسفيلد سبب ضيقه فعلياً بهذه الشفافية الرقمية، التي (وللمفارقة أيضاً وأيضاً) صنعتها الأدمغة المتألقة في بلاده بالذات! وتزيد المفارقة عندما نتذكر أن الوزير، الذي أظهره التلفزيون مُصافحاً الرئيس العراقي السابق صدام حسين حين باع له أسلحة لتغذية حربه ضد إيران، سبق أن كتب شعراً في مديح الإنترنت! وهنا يبرز معلم آخر مهم في الفارق بين أوباما ومجموعة المُحافظين الجُدد. وفي شعره ذاك كتب ما معناه («الشبكة الإلكترونية الدولية/ أي هبة إلهية؟/ بإمكان قرد مُدرّب أن يمارس التجارة الإلكترونية»). لكن رامسفيلد نفسه أخذ على جنوده وغضب منهم لأنهم التقطوا أشرطة التعذيب في «أبو غريب» مستخدمين كاميرات رقمية عادية وعيون الخلزي وبثّوها عبر الإنترنت؟ هنا، نراه على غرار خطاب الشركات العملاقة في المعلوماتية، يؤيد الإنترنت ما دام وسيلة لممارسة التجارة بسرعة الضوء، وعبر العالم الذي يجب أن يكون مفتوحاً ومستلب الإرادة.



لقد آلت كل أمور المحافظين الجُدد إلى هزيمة هائلة، سواء في السوق أو في طريقة التفاعل فكرياً وثقافياً مع التقدّم العلمي المتمثّل بالإنترنت. لنتذكر أن إسباغ الوعود الوردية الكاذبة ليس الأسلوب العلمي والحضاري للتعامل مع المنجزات العلمية، بل هو نقيضه. إن الغرق في تلك الوعود هو الوجه الآخر للانبهار ولفقدان القدرة على التفكير النقدي، وللانشداه وانخلاب العقل أمام إبهار السلع المتطورة وسطوتها. واستطراداً، فقد ركّز المفكر الفرنسي الراحل جان بودريار الكثير من النقد على هذا الاستلاب المعاصر. وشبّه العولمة الإلكترونية ووعودها بالآلهة الجديدة التي لا تطلب من «عبادها» شيئاً سوى الطاعة العمياء والتفكير المُصدّق وغير النقدي. وشبّه بودريار أحداث الإرهاب في 11/9 بأنها صدام بين الآلهة القديمة والآلهة الجديدة.
على عكس رامسفيلد واستلاباته وقردته المُدرّبة، جاء تصرف الرئيس المنتخب أوباما. فمن باب أول، لم يُعرف عنه الترويج القوي ولا الانشداه المذهول بالتكنولوجيا الرقمية. ووضع خطابه الأول في موقع «يوتيوب»، فصار شريطاً خلوياً يمكن للجمهور التقاطه ومشاهدته. لنلاحظ التعاكس القوي بين الضيق بالشفافية الرقمية والأشرطة التي توضع على الإنترنت (كحال رامسفيلد) وبين ممارسة الشفافية الرقمية وتدعيم حقوق المواطن الإلكترونية ووضع أشرطة مفتوحة على الإنترنت (كما هو خيار أوباما). وتكاد الوقائع تنطق بذاتها. فخلال 24 ساعة فقط، وصل عدد مشاهدي شريط الخطاب الرئاسي إلى 30 مليون مشاهد. وقد عدّ معسكر أوباما المشاهدة شأناً إيجابياً، ودليلاً على تفاعل الجمهور الأميركي والعالمي مع أوباما. ويحمل ذلك تعاكساً مع ضيق رامسفيلد بكل عين رأت أشرطة التعذيب في «أبو غريب».
ثمة ملمح آخر لهذا التعاكس. فقد تناقلت وكالات الأنباء أن أوباما سيترك هاتفه الخلوي المتطور من نوع «بلاك بيري» ويلجأ إلى الكومبيوتر المحمول العادي، ليدبر شؤونه في المكتب البيضاوي. ووجه التناقض أن رامسفيلد، الذي جمع بين استلاب التقنية والضيق بشفافيتها وديموقراطيتها، نظّر طويلاً لقدرة التكنولوجيا على جعل أميركا قادرة على خوض أكثر من حرب، وعلى أكثر من جبهة، وبالحد الأدنى من البشر والخسائر. وكذّبت الوقائع المتتالية في العراق وأفغانستان هذه البهرجة التكنولوجية. وفي المقابل، تعامل أوباما مع التقنيات الرقمية بواقعية. النتيجة؟ ثلاثة ملايين عنوان إنترنت على لائحة موقعه للمراسلة. مئات الأعمال من الفن الرقمي لتأييده، وخصوصاً تلك الصور التي صُنعت بالكومبيوتر باستخدام كلمات حملته مثل «التغيير» و«نستطيع» وغيرهما، ومئات الأشرطة الرقمية التي تحمل أغانيَ وموسيقى شبابية حديثة عن رئاسته ودلالتها تاريخياً.