معتصم حمادة *...وانتهت المرحلة الأولى من الحوار الفلسطيني، بانعقاد اللقاء بين وفدي «حماس» والقيادة المصرية. وهو اللقاء الأخير في مسار اللقاءات الثنائية للجانب المصري، مع الفصائل الفلسطينية كلّ على حدة، بناءً على ورقة حملت أسئلة رغبت القاهرة في معرفة ردود الفصائل الفلسطينية عليها. وقد استجابت الفصائل كلها للرغبة المصرية، وأرسلت إلى القاهرة ردودها، ما عدا حركة «حماس»، التي حمل وفدها إلى الحوار الثنائي رده معه، في خطوة حملت أكثر من إشارة، أرادت من خلالها الحركة الإسلامية أن تميِّز نفسها عن الآخرين بحيث «أخفت» موقفها حتى اللحظة الأخيرة.
الحوار المصري مع «حماس»، وقبله مع باقي الفصائل الفلسطينية الأخرى، أبرز إلى حدٍّ كبير حجم التباين بين موقف الفصائل، وموقف «حماس». ويمكننا أن نرسم هذا التباين في العديد من النقاط، نختار أهمها وأكثرها تأثيراً على الحالة السياسية الفلسطينية.
فالفصائل التي شاركت في الحوار، تلتزم الشرعية الفلسطينية ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، والتزام الشرعية شيء، وتأييد السياسات التي تتبعها القيادة الرسمية في المنظمة أو معارضتها شيء آخر.
فقط حركة «حماس»، وحدها تطعن في شرعية هيئات المنظمة وتربط بين «شرعية» هذه المنظمة ومشاركة «حماس» نفسها في مؤسساتها بشروط «حماس» وحدها. لذلك، لم يكن مستغرباً أن تعرض «حماس» على الرئيس محمود عباس، بعد أيام قليلة على الاتفاق الموقَّع بينهما في مكة في 8/2/2007، الدخول في صفقة ثنائية، يُعاد فيها توزيع الحصص والمناصب في م.ت.ف. بما يتجاوز الدعوات إلى الانتخابات الشاملة لاختيار مجلس وطني جديد. ولو استجاب عباس لطلب «حماس»، لهبطت «الشرعية» على أوضاع منظمة التحرير من دون نقاش.
في السياق نفسه، فإن حركة «حماس»، كانت الطرف الوحيد الذاهب إلى الحوار في القاهرة من موقعه المتمرد على الشرعية الفلسطينية والمنقلب عليها. متمرد ليس فقط على شرعية م.ت.ف. في تمثيلها للشعب الفلسطيني، بل على السلطة الفلسطينية بمؤسساتها المعروفة. وكي تداري «حماس» سياستها الانقلابية، تجادل الداعين إلى احترام الشرعية الفلسطينية، بدعوتهم إلى التعامل مع ما تسميه الحركة الإسلامية «الشرعيات» الفلسطينية.
وعند السؤال عن هذه «الشرعيات»، يأتي الجواب أنها «شرعية» حكومة هنية، وشرعية المجلس التشريعي ورئاسته. لكن الدخول في التفاصيل، يوضح لنا أن معظم وزراء حكومة هنية قد استقالوا منها عقب صدور قرار الرئيس عباس بإقالتها (وهو قرار لم تستطع حماس أن تشكك في قانونيته)، وحتى وزراء «حماس» في الضفة الفلسطينية توقفوا عن تأدية دورهم في حكومة متمردة على الشرعية.
وهكذا لم يبقَ في حكومة هنية سوى أربعة وزراء هم الأعضاء في «حماس». وفي خطوة غير قانونية، لجأ هنية إلى «تسمية» من يفترض برأيه أنهم وزراء في حكومته، من دون أن ينالوا موافقة المجلس التشريعي وثقته، ومن دون أن ينالوا موافقة الرئيس عباس كما ينص على ذلك القانون الأساسي الذي تطالب «حماس» بتطبيق المادة الـ 34 منه، والخاصة بولاية الرئيس عباس.
في الأساس القانوني، لا يحق لهنية «توسيع» حكومته المنهارة والمقالة. ولو افترضنا أن من حقه أن يفعل ذلك، لكان من واجبه أن يتقدم بالحكومة «الجديدة» (جديدة بعناصرها لأن معظم عناصرها السابقين غادروها) إلى المجلس التشريعي، وببيان وزاري جديد. تجاوز هنية هذا كله، وما زال يعقد اجتماعاً أسبوعياً لما يسمى حكومته، يصدر في ختامه، الناطق باسمه طاهر النونو بياناً يتحدث فيه عن «دولة رئيس الوزراء إسماعيل هنية»، وعن مداخلته السياسية في الاجتماع.
إذن هي حكومة خرقت كل قواعد الشرعية وانتهكتها، وما زالت تدعي أنها شرعية وتطعن بشرعية الآخرين.
أما في ما خصّ شرعية المجلس التشريعي، فإن «حماس» هي التي تتحمل مسؤولية الشلل الذي أصابه أخيراً. فهي من موقعها في رئاسة المجلس، تحمل مفاتيحه. لذلك استغلت هذا الموقف وأغلقت مقره في غزة، عقب انقلابها الشهير لتمنع النواب من الاجتماع لمنح الثقة لحكومة سلام فياض التي خلفت حكومة هنية المقالة.
ثم فتحت مقر المجلس، من دون دعوة النواب غير الأعضاء في «حماس» لتمرر بدعة التوكيلات الممنوحة من النواب الأسرى إلى زملائهم في الحركة، ولتعقد على هذا الأساس اجتماعات لبعض نوابها في القطاع (29 نائباً فقط من أصل 132) وتدعي أنها اجتماعات شرعية وقانونية تصدر قوانين وتتخذ قرارات وتطلق تصريحات لا تصب إلا في زج المجلس التشريعي في النزاعات والصراعات الفلسطينية، ولا تصب إلا في تعميق حالة الانقسام.
وبالتالي، عندما يدعو خالد مشعل، على سبيل المثال، إلى الاعتراف بـ«الشرعيات» الفلسطينية، فإنه يحاول بذلك أن يغطي على تمرد هنية و«حكومته» وعلى أحمد بحر ونوابه، وأن يسبغ عليهم وعلى قراراتهم وسياساتهم الانقسامية شرعية مدعاة.
كذلك كانت حركة «حماس» الطرف الوحيد الذي طالب بتجاوز الحوار الشامل، واستبداله بحوار ثنائي مع حركة «فتح»، وما يتوصل له الطرفان هو ما يعتمده الحوار الشامل من اتفاق. أي إن حركة «حماس» لم تدعُ إلى تكرار تجربة المحاصصة والعودة إلى صيغة اتفاق مكة وتجربتها الفاشلة والمأساوية فحسب، التي انتهت في بحر من الدم الفلسطيني، بل أرادت أيضاً أن تلتف على الحوار الوطني، وأن تفرغه من مضمونه، وأن تحول الخلاف من خلاف بين «فتح» و«حماس» إلى خلاف بين فتح وحماس من جهة وباقي الفصائل من جهة أخرى. لذلك اقترحت خمس لجان ثنائية بينها وبين «فتح» لبحث ملفات الخلاف، وكذلك اقترحت لقاءً ثنائياً بينها وبين «فتح» للاتفاق على البيان الختامي الذي سوف «يتبناه» الحوار الشامل يومي 9 و10/11/2008.
وهي كلها مواقف تؤكد أن الحلول التي تطرحها «حماس» لا تندرج في توحيد الموقف الفلسطيني، بل تبحث في تحويل السلطة من مسؤولية إلى مغانم، ووضع «قانون» لتقاسم هذه المغانم بينها وبين فتح.
وفي السياق، ولتأكيد صحة ما وصلنا إليه أعلاه من استنتاج، نلفت النظر إلى أن «حماس»، في مواقفها بشأن الحوار، تدعو إلى اعتماد «إعلان القاهرة»، و«اتفاق مكة» و«إعلان صنعاء» أساساً للاتفاق بينها وبين «فتح». وتتجاهل إلى حد بعيد وثيقة الوفاق الوطني.
وفي التدقيق، نلاحظ أنّ إعلان القاهرة يبحث في إعادة بناء م.ت.ف. (أي إنها تبحث لنفسها عن حصتها في المنظمة)، وأن اتفاق مكة يدعو إلى المحاصصة بينها وبين «فتح» (أي إنه يدعو إلى تقاسم السلطة ثنائياً) وإعلان صنعاء يدعو إلى حوار ثنائي بين الحركتين للاتفاق على إعادة توحيد المؤسسات في إطار من المحاصصة أيضاً.
وحدها وثيقة الوفاق الوطني هي التي تحمل في بنودها مضموناً سياسياً، ووحدها وثيقة الوفاق الوطني التي تحمل عناوين البرنامج السياسي الموحد للخلاص من الاحتلال والاستيطان وصون حق العودة. ووحدها وثيقة الوفاق الوطني تمثّل في بنودها ضوابط للحركة السياسية الفلسطينية.
وعندما تصر «حماس» على الوثائق المعنية (فقط) بتوزيع الحصص، وتتجاهل الوثيقة السياسية (وثيقة الوفاق الوطني)، فذلك معناه أن الصراع يدور حول السلطة، وحول المغانم، وحول المكاسب، وبعقلية فئوية، وأن كل الشعارات والخطابات السياسية الرنانة، ما هي إلا إبر تخدير، نسي أصحابها أنها تجاوزت صلاحياتها القانونية وباتت عاجزة عن أن تؤثر في الجسد الفلسطيني.
* عضو اللجنة التنفيذية
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين