محمد زبيبفي 31 أيار 2009، استفاق اللبنانيّون المقيمون في صبيحة يوم مشمس. كانوا نشيطين على غير عادتهم، مبتسمين وكأن سحراً قد أصابهم. بعضهم احتسى القهوة التركية ومجّ حاجته من النيكوتين، وبعضهم تناول فطوره البلدي (بيضاً وكشكاً مع القورما والسودة النيئة، وكوباً من الشاي السيلاني الأصيل)، إلا أن معظمهم آثر أن يبدأ نهاره نظيفاً من أي شوائب تتصل بعاداته السابقة، فاكتفى بكوب من الحليب أو العصير الطازج والقليل من الخبز المملّح ليسند معدته الخاوية، ومضى سريعاً إلى صندوق الاقتراع، حاملاً ذاكرة حبلى بالأحداث والتجارب (ويللي جرّب المجرّب كان عقلو مخرّب)، وإحساساً فائضاً بالحرية والإرادة والمصلحة، وبطاقة هوية وورقة صغيرة دوّن عليها بعناية فائقة أسماء المرشحين المختارين الذين أمعن النظر كثيراً في عقولهم وأيديهم ووجوههم وماضيهم وحاضرهم وانتماءاتهم ومصالحهم الاجتماعية وبرامجهم المكتوبة.
كانوا كثيرين كما في الأحلام، ضجّت بهم الشوارع يومها... حافظوا على حيوية كافية لإبقاء مزاجهم محصّناً، لا يعكّره هدير البوسطات المستأجرة والخطابات الإعلامية المهيّجة والصور التي تلفظها الحيطان ونفايات أوراق اللوائح المرمية هنا وهناك كالمعلّبات الفاسدة المنتهية الصلاحية... صحيح أنهم لم يكونوا واثقين مما سينتجه قانون الستين على مستوى تمثيلهم في السنوات الأربع المقبلة، لا بل، بصراحة، كانوا خائفين بعض الشيء من النتائج التي قد تقضي على آخر فرصهم في اكتساب وطن ودولة ومواطنة وحقوق وعدالة وكرامة وتنمية وأمن وأمان وسلام وعيش لائق ورفاه ومستقبل... هذا الخوف، ربما، هو الذي كان يسرّع خطاهم نحو أقلام الاقتراع في ذاك الصباح المشهود، أو ربما هو السحر نفسه أيقظهم على درجة عالية من الوعي بمصالحهم الحقيقية، فمزّقوا «بونات» البنزين وأعادوا صناديق «الإعاشة» وقاطعوا مزادات شراء الأصوات وبيعها ورفضوا الوعود الكاذبة بالوظائف التي هي من حقّهم أصلاً وداسوا على قشور الزفت «الموسمي» المفلوشة فوق أزقتهم المنكوبة والمموّلة من جيوبهم وعرق جبينهم... فعلوا كل ذلك بهدوء، تماماً كمن يخبّئ مفاجأة ولا يريد أن يفسدها، فهذه هي المرّة الأولى التي أدركوا فيها أن لكل صوت قيمة، وأن عليهم مسؤولية تجاه أطفالهم وشبّانهم (المحرومين من حق الانتخاب)، فالتغيير لا يسقط بالمظلّة ولا يأتي بالواسطة، وهو ليس هبة أو مكرمة... بل هو ثورة يقومون بصناعتها عبر خيارات ونضالات وصراعات صاخبة لا تشبه أبداً هدوءهم في ذلك اليوم الانتخابي. لقد أدركوا أن خياراتهم في هذا اليوم لا تختصر كل الطريق، ولكنها تحدد اتجاهه نحو الهاوية أو نحو طبقة سياسية جديدة تؤسس لدولة يرتضيها المواطنون عبر وضع قانون ديموقراطي للانتخاب يعتمد النسبية ويؤمن المشاركة ويمهّد للنظام العلماني والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
كانت نسبة الاقتراع مرتفعة جداً إلى درجة ذوّبت قدرة الطبقة السياسية على إعادة إنتاج نفسها، وجاءت النتائج مفاجئة بالفعل حتى للمقترعين، فسيطر العلمانيون على أكثرية ثلثي المقاعد النيابية على الرغم من ترشّحهم على أساس مذهبي ومناطقي، وحضر اليساريون بقوة في المجلس النيابي الجديد على الرغم من وصفهم بالمستقلين... وبعد أيام قليلة بدأت الاستشارات الملزمة لتسمية رئيس الحكومة فجرى اختيار رئيس من خارج النادي المعتاد يمثّل الأكثرية النيابية المنتخبة، ديموقراطي بامتياز ويؤمن بدولة المواطنة القوية والقادرة والعادلة ومعروف عنه نضاله الطويل ضد الفساد ومعارضته للنموذج الاقتصادي القائم ورفضه لأي تداخل بين الدين والسياسة...
ويُحكى أن رئيس مجلس الوزراء الجديد رفض أخذ الصورة التذكارية للحكومة قبل الاتفاق على برنامج عمل... وبعد أسبوعين من تسمية الحكومة، مثلت أمام النواب وتلا رئيسها بياناً يتضمّن البرامج اللازمة لتحقيق العناوين التالية:
- إلغاء القيد الطائفي وإقرار قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية يساوي بين كل المواطنات والمواطنين من دون أي تمييز أو تفضيل، وإلغاء طائفية الوظيفة بما في ذلك وظائف الفئة الأولى ووضع قانون جديد للانتخاب يقوم على مبدأ التمثيل النسبي غير الطائفي والدائرة الواحدة والانتخاب في محل الإقامة لجميع اللبنانيات واللبنانيين ممن أتّموا سن الثامنة عشرة.
- إقرار التشريعات اللازمة لتنقية القضاء وضمان استقلاليته وضمان نزاهة القضاة وكفاءتهم وعدم التباطؤ أو الاستنساب في الإجراءات القضائية والمحاكمات وتوفير كل الوسائل من أجل تمكين الناس من الحصول على العدالة القضائية، ولا سيما أولئك الذين يفتقرون إلى القدرة في الوصول إلى القضاء.
- إعادة تنظيم وهيكلة القوى العسكرية والأمنية، والبدء بتسليح الجيش تسليحاً يسمح له بتأدية وظيفته في مواجهة العدوان الخارجي وتأمين سيادة الدولة اللبنانية على كل أراضيها، وتأمين سيطرتها على حدودها البرية والبحرية والجوية، بما يجعل كل المواطنين اللبنانيين يثقون بقدرة دولتهم على حمايتهم وضمان حقوقهم وحرّياتهم.
- إقرار الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية وإطلاق مشروع التنمية الشاملة الذي يعزز الاقتصاد المنتج ويقوم على دور محوري للدولة في تأمين الخدمات الأساسية وتوفير الحماية الاجتماعية وضمان الحقوق المتعلقة بالتعليم والصحة والسكن وفرص العمل والبيئة النظيفة.