محمد بنعزيز*‏صدر تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية عن أحداث سيدي إيفني في منتصف ‏الشهر الفائت، أي بعد ستة أشهر من «السبت الأسود 7/6/2008»، حين وقعت ‏مواجهات بين المحتجين على فقرهم المدقع، بينما تمر من فوق رؤوسهم ثروات ‏التصدير السمكي من خلال مينائهم، فحاصروا الميناء وقوات الأمن... وقد أعلنت ‏قناة الجزيرة حينها وقوع قتلى، لكن هذا لم يثبت، فمنعت الحكومة المغربية ‏القناة من بث «نشرة المغرب العربي» من الرباط. وسيدي إيفني التي كانت ‏مستعمرة إسبانية حتى حزيران/ يونيو 1969، يسكنها حالياً 20 ألف نسمة، وتبعد ‏حوالى 800 كلم عن الرباط باتجاه الجنوب، وتقع قبالة جزر الكناري دون أن ‏تربطهما أية سفينة. مدينة صغيرة أخضعت العهد الجديد في المغرب لاختبار ‏قاسٍ.‏
التقرير البرلماني يحمّل مسؤولية الأحداث لقيادة الحركة الاحتجاجية التي استغلّت ‏المطالب الاجتماعية لتأزيم الأوضاع، ولم يلمْ التقرير الدولة على عدم تحقيق تلك ‏المطالب أصلاً، وهي التطبيب والطريق وتجهيز ميناء الصيد. لكن التقرير نصح ‏بالتنفيذ مستقبلاً.‏
وبغض النظر عن الجدل الذي سيلي هذا التقرير، يقترح هذا المقال، بعد عدة ‏زيارات لموقع الأحداث، إلقاء نظرة على الخصائص التنظيمية للحركة ‏الاحتجاجية: الفاعلون، تنظيماتهم، ثقافتهم واستراتيجيتهم. ‏
تألّفت «السكرتارية المحلية لإيفني آيت باعمران» كإطار تنسيقي منتصف 2005، ‏وتكونت من ممثلين لخمسة عشر إطاراً، أربعة فروع حزبية محلية، خمسة فروع ‏نقابية وست جمعيات. انتدب كل إطار ممثلاً عنه، أربعةُ مجازين، ثمانيةُ حاصلين ‏على البكالوريا، والثلاثة الآخرون بين ثانوي وابتدائي. يمثل هؤلاء حساسيات ‏اجتماعية وسياسية مختلفة، جمعهم هدف واحد معلن، هو رفع التهميش عن ‏المنطقة التي ينتمون إليها. حظيت السكرتارية بدعم فاعلين ميدانيين من بحارة ‏وعاطلين متعلمين يمثلون امتداداً للنسيج الاجتماعي المحلي، وقد مكّنهم ذلك من ‏تجنيد النساء، ربات بيوت وشابات من منطقة يتأخر فيها سن زواج النساء إلى 29 ‏سنة... يكفي أن يكون في البيت شاب جامعي، وحيث أن لا شغل له، فهو يقضي ‏جل وقته في تحريض نساء الأسرة ضد الظلم والتهميش... ونتيجة لذلك، وفرت ‏النساء عمقاً قوياً للحركة الاحتجاجية، وغالباً ما كنّ أغلبية في المسيرات. وقد ‏استمعت إلى نساء فوق الستين غاضبات يحلّلن وينتقدن الوزير الأول بسخرية بليغة. ‏
هؤلاء هم الفاعلون الجدد في التغيير، كتب الأمير هشام بن عبد الله العلوي ‏‏»الفاعلون التقليديون للتغيير ـــــ مناضلون نقابيون أو سياسيون، أو طلبة ـــــ يبدون ‏أضعف من أي وقت. أما الفاعلون الجدد ـــــ أقليات جهوية أو لغوية، صحافيون، ‏مثقفون مستقلون ـــــ فيكافحون بصعوبة ليتوحدوا وليفكوا قبضة سياسة متسلطة ‏ترسخت منذ مدة طويلة» (الموند ديبلوماتيك نيسان/ أبريل 2008).‏
في الاحتجاجات التي أصفها، لم يتحرك الفاعلون التقليديون. حتى فروع الأحزاب ‏الأربعة انسحبت من السكرتارية تباعاً، لأن أجندة التسيير الممركز لا تراعي كثيراً ‏إكراهات الفاعلين الجهويين. بقيت الجمعيات المحلية فقط، وهي سيدة قراراتها، ‏وهذه تنظيمات مستجدة، مثل جمعية المعطلين وحركة «أتاك» العالمية.‏
هنا نصل إلى ثقافة الفاعلين، وفيها تياران رئيسيان، تيار جهوي يفتخر بالانتماء ‏القبائلي، وقد فرض ممثلو هذا التيار تسمية السكرتارية باسم القبيلة «إيفني» زائد ‏‏»آيت باعمران». ماذا أقصد بالنزعة القبلية الآن؟ أقصد كل حامل هوية ‏ميكروسكوبية، يفخر بمزيج من العرق واللغة، يرفع لافتة حقوقية ويقر بالنّية ‏والبركة، يطالب بالتحديث ويمارس التقليد برضى، يرفض الطبقية ويقبل بتضامن ‏عمودي كعامل تعبئة، تضامن مع ابن العم، مع الأعيان المحليين لا مع من ‏يحمل الأفكار نفسها.‏
التيار الثاني مثّلته حركة «أتاك» اليسارية، وهي النقيض التنظيمي للقبيلة. في ‏‏«أتاك»، لا مكانة اعتبارية للأعيان وأبنائهم. اليسار هنا ليس أيديولوجيا شيوعية، بل ‏حالة تمرّد، وهو مسلح بترسانة شرسة من المفاهيم لنقد الرأسمالية. ميزة اليسار ‏أنه يؤمن بضرورة الدولة ودورها الريادي، يؤمن بدور الدولة التي في ذهن ‏مناضليه، بينما يكنّ عداءً شديداً للدولة القائمة. لذا يستثمر يسار الثورة الدائمة كل ‏فرصة لتأزيم وضعية النظام وإحراجه أمام الرأي العام، وهذه الفرص كثيرة... ‏وعادة ما تختتم بيانات الحركة بـ«لا يزال الوضع مرشّحاً لمزيد من التصعيد». ‏وطبعاً، حين تهمل الدولة منطقة لـ40 سنة، فهذا سبب كافٍ للتصعيد، فما بالك إذا ‏ماطلت السلطة في شراء كاسحة رمال لمنع ترمل مدخل الميناء، ‏المورد الوحيد للمدينة؟
على صعيد مرجعية التحليل التي استخدمها الفاعلون، وبإلقاء نظرة على الوثائق ‏التي حررت أثناء نقاشات تأسيس السكرتارية أو في البيانات اللاحقة، يتضح أنه ‏رغم الغلبة العددية للتوجه القبائلي، كانت الغلبة التوصيفية لثقافة اليسار. وهكذا ‏نددت أرضية المنتدى الذي نظم بالمدينة بوضع الكادحين الذين تستغلهم ‏البورجوازية، وأكدت أن المغرب لا يخرج عن السياق العام للنظام الإمبريالي ‏العالمي في اعتبار التعليم والصحة بضاعة. وتبنّت الأرضية شعار المنتدى ‏الاجتماعي العالمي لبورتو أليغري «ضد العولمة النيوليبرالية المتوحّشة». بهذه ‏الخلفية الثقافية الثنائية، حيث يتحرك اليسار في حضن القبليّة، دخل الفاعلون الجدد ‏في برنامج نضالي لوقف مسلسل تهميش المنطقة عبر «اللجوء إلى كل الأشكال ‏النضالية المشروعة»، حسب البيان المؤسس للإطار المبتكر. ‏
بدأ البرنامج بمراسلة الوزير الأول، ثم تنظيم مسيرات ومقاطعة الانتخابات، ثم ‏اعتصامات تطورت إلى مواجهات مع قوات الأمن... وقد عُمد كل هذا باسم ‏‏«انتفاضة إيفني آيت باعمران». وللانتفاضات أسباب حسب التعريفات الكلاسيكية ‏لنظريتها: أولاً غياب العدالة التوزيعية، ثانياً الشعور بالظلم، ثالثاً وجود حالة ذهنية ‏واستعداد نفسي محبِّذ للتغيير. وقد توافرت كل هذه الشروط في التجربة التي ‏نستعرضها، فآلاف أطنان السمك تستخرج من البحر ولا تصنّع في عين المكان، ‏والمنطقة مهمشة، وهي منطقة مشهورة في تاريخ المغرب بالتمرد ومقاومة ‏الإسبان، وهو ما أوجد حالة ذهنية تتغذى من خزان السخط التاريخي، وتُغذي ‏طموحات الشباب. يقول بورديو: «إن الأطفال يرثون من خيبات ‏آبائهم وطموحاتهم غير القابلة للتحقق». للسلطة أيضاً أحكامها الموروثة عن المنطقة، منها تهمة ‏الانفصال. لهذا كان التعامل قاسياً، بدأ بتجاهل المطالب الاجتماعية المشروعة، ثم ‏بتقديم وعود سخية عقب كل مسيرة احتجاجية، وعندما أغلق المعتصمون الميناء، ‏تدخلت قوات الأمن بعنف شديد، واعتُقل 26 شخصاً لم يحاكموا بعد ستة أشهر ‏من الاعتقال، ما جعل إحساس «الحكرة» (الاحتقار أو الاضطهاد باللهجة ‏المغاربية) يتعمق. ‏
‏ بعد أربع سنوات من الاحتجاجات المتقطعة، لم تحقق السكرتارية هدفها، وقد كان ‏لمشاكلها الداخلية دور في ذلك، فقد كان التيار القبائلي يعدّ الأعيان حلفاء يمكن ‏أن يتوسطوا لدى السلطة، بينما يرى اليساريون أن الأعيان أعداء طبقيون وأن ‏الاعتماد عليهم وهْم. وقد ترتب عن هذا الاختلاف في الرؤية اختلاف في ‏الممارسة. ولتعميق هذا الاختلاف، وزعت السلطة المعتقلين إلى مجموعتين، ‏واحدة ممن يُصعّد ويُضرب عن الطعام، وأخرى تهدئ وتنتظر الفرج عبر ‏الوساطات. وفي هذه الأثناء، يحاول الأعيان الالتفاف على السكرتارية التي قادت ‏النضال بتقديم أنفسهم ممثلين للسكان، للحصول على غنيمة تلوح في الأفق. ‏
هذا هو وضع الفاعلين الجدد في مغرب اليوم. وهم يتحركون في المدن والقرى ‏النائية أكثر مما يتحركون في العاصمة. ومن الواضح أن وضعهم صعب، لأن ‏قبضة السلطة شديدة، ولكنها ترتعش أحياناً، وخاصة أن المتعاطفين مع المحتجين، ‏من صحافة وجمعيات، يتابعون الأحداث عن قرب، وقد وفرت لهم الإنترنت ‏صور فيديو فاضحة لما جرى. حين واجهتُ أحد أعضاء السكرتارية بالفشل في ‏تحقيق المطالب أجاب: «حتى لو لم تحقق الانتفاضة مطالبنا، فقد تحررت النفوس ‏من الخوف، تشجع الشباب، وبهذه الطريقة في الحساب، فإن الربح يليق بالثمن ‏الذي دُفع».‏
يصعّب هذا التحرر استخدام السلطة للعنف للحصول على الخضوع السياسي. ‏وهذا التحرر هو الذي سيصوغ مستقبل مغرب الغد. ‏
‏* صحافي مغربي