ماجد المذحجيذلك ما يمكن التأكد منه باستمرار في هذا المكان البارد، حيث يُمكن أن تعيش إلى الأبد بأقل قدر من المفاجآت، ولا يصبح من السهولة للفرد أن يبتكر مصيراً خارقاً فيها. لا تحدث أشياء مفاجئة أو عظيمة في الشارع مثلاً، كل شيء يومي ومعتاد، ودون أي فرق يُمكن أن تُستهلك الكثير من الأيام قرب بشر منهمكين تماماً في رتابتهم.
إنها تماماً مكان بلا توقعات جديدة.
بالطبع يسهل أن يستسلم الجميع لصلابة الاعتياد، فلا شيء يُتمسّك به هنا ببساطة سوى الضجر، وربما الاطمئنان للمصير اليومي نفسه وعدم إحداث شيء جديد. ذلك سهل وغير مكلف: الخطوات نفسها في الطريق نفسه باستمرار، وبالتأكيد لا حاجة أبداً للتفكير بعمل مفاجئ ما. ربما لأن لا شيء مغرٍ أو يدعو للتفرد، ولأن الرغبات، القليلة بالأساس، تتحول إلى عبء، لأنها تورط المرء في بذل جهد أكبر.
الأسماء معتادة ومكررة ويمكن توقعها: محمد، علي، عبد الله.... أما أولئك الذين تورطوا بأسماء لافتة بفعل أزمان أيديولوجية على الأغلب مثل مكسيم، غيفارا، مارسيل وغيرها، فأصبحوا مضطرين لتبديلها تلافياً لإثارة مستمرة للانتباه.
بالتأكيد لا حاجة للإمعان كثيراً لتتمكن من ملاحظة ذلك: يستمتع الجميع بهذه الرتابة الراسخة. ليس ذلك مديحاً جماعياً للكسل من أي نوع، إنه فقط استغراق كامل في انعدام الحيلة.
يضيف الشتاء ثقلاً أكبر لكل شيء، وما يمكن توقعه يصبح أقل باستمرار. الوقت سميك، وما يُنتظر عادةً يتأخر في كثافة الكسل. لا مسرات يمكن مصادفتها في صنعاء المحايدة تماماً، وما يعتني به الجميع فقط هو حراسة المكان من أي متعة عارضة!
يمكن المرء أن ينهمك في «مقايل القات» للفرار من الضيق النهاري المزمن، تصبح جمجمتك مزدحمة بالهواجس عقبه، أفكارك يقظة ويمكن أن تتورط بالكثير من الأوهام الجنسية، وتنهمك تماماً في مراقبة كيف يصبح العالم دوماً أجمل خارج صنعاء.
التشابه كثير هنا، الوجوه مكرّرة، جميعها قاسية ومنهكة، والنساء يصعب تمييزهنّ في شوارع مستمرة في العتمة: الهيئة والمخاوف نفساهما، والجسد المحروس جيداً من خارجه بلون ميت.. وأسود. يتكرّرن في الشوارع والمخيلة بالتفاصيل نفسها، التشابه والتكرار يجعل كل شيء مشحوذاً وحسّياً، وفي البرد الليلي لمدينة مزدحمة بالذين يشعرون بالوحدة، تصبح النساء محلاً كثيفاً للرغبة والتهيؤات.
يحدث في صنعاء أيضاً أن يُصاب الأفراد بالوهن، أو الخذلان، أو الضجر. ذلك اعتيادي في أي مكان في العالم، لكن ما لا يقدرون عليه فعلاً هو تحييد كوابيسهم الشخصية في حانة ما، الترنّح في الشوارع بأقل قدر من المخاوف بعد تناول البيرة مثلاً، ودون أن يصادفك عسكري متشكّك يطلب منك فتح فمك للتأكد من وجود رائحة الكحول.
تلك حياة متخيلة هنا، حيث يمكن المرء أن يسهر ببساطة ويرمي تعبه ومخاوفه خلف ظهره، حتى أنه لا يمكن للمرء الاستغراق في العتمة اللذيذة لصالات السينما وتقبيل صديقته خلسة من الآخرين.
إنها مدينة دون سينما أو بارات! ليلها مغلق على خوف ثقيل وإحساس مستمر بأن أحداً ما يُمكن أن يسطو على روحك فجأة.
نعم، يمكنني أن أتأكّد يومياً كم هو فعل جزافي الاستمرار بوصف هذا المكان بالمدينة.