قصّته قديمة مع الرقابة، منذ «الحياة اليومية في قرية سورية»... لكنّه يرى أن سلطة الفنّ عابرة للأزمنة. السينمائي السوري الذي ينسج مع الواقع علاقاته الخاصة، حقق أفلاماً تسجيليّة أساسيّة من بنازير بوتو إلى رفيق الحريري، وها هو يعود اليوم إلى زمن الإمبراطوريّة، من خلال شخصيّة جدّه الجنرال العثماني...

خليل صويلح
نافذة البيت التي كان يُحبس خلف قضبانها في طفولته عقوبةً له، كانت شاشته الأولى على الشارع، ولعلها شاشته الأكثر عمقاً إلى اليوم. «الوقفة وراء الشباك تشكّل لي متعة فريدة، فهي فرصة لمراقبة حركة البشر في الشارع وتأمُّلها، ومحرّض لاختراع قصص افتراضية عن حياتهم. التلصّص كان مفتاحي لاقتحام حياة الآخرين».
وجد عمر أميرالاي ضالته، مطلع شبابه، في الرسوم الكاريكاتورية، ليعبّر عن نزقه ونقده للحياة اليومية، وذلك في إحدى الصحف المحلية خلال فترة الانفصال (1961). يفسر هذا الميل المبكر إلى النقد بتركيبته الشخصية، وبعدم انتمائه الكامل إلى المكان. «كنت مثل بقعة الزيت التي تطفو فوق بركان من الهويّات، بحكم أصولي العثمانية، وعائلتي الشركسية التي تتكلم التركية والعربية، في خليط إثني ملتبس، قادني ربما إلى هذه نظرة نقدية نزقة تعبّر عن عدم رضىً عن الواقع».
لن تطول هذه النظرة العدمية، إذ كانت صدمة هزيمة 67، كفيلة بزلزلة هذه الأرض الزلقة للأحلام. «كانت هزيمة للأوهام الكبرى، وهزيمة للعدمية في المقام الأول، لقد انهار البيت فوق رؤوس الجميع، بمن فيهم الغرباء أمثالي». يستدرك عمر بقوله: «إنّ الهزيمة أعادت ارتباطي إلى المكان، بالمفهوم الوجودي، لا بالمفهوم الوطني للعبارة». قبل هذا الزلزال، كان أميرالاي قد غادر البلاد إلى ألمانيا بلا هدف محدد. هناك قرر دراسة الغناء الأوبرالي في كونسرفتوار برلين، لكنه اكتشف أن هذا العالم، الشديد الانضباط والتعقيم، ليس مكانه. هجر المعهد، وغادر إلى باريس لدراسة السينما، لعدم علمه بوجود معهد للسينما في برلين. يقول متهكماً: «لو أُتيح لي الانتساب إلى هذا المعهد، لكنت في ورطة حقيقية، أقلها الانخراط في صفوف الجيش الأحمر، فقد كان أعضاء منظمة «بادر ماينهوف»، طلاباً في الدفعة الأولى من متخرجي معهد برلين، وكان فيلم تخرّج أحدهم بعنوان «كيف تصنع قنبلة مولوتوف؟»».
حين نُبدي استغرابنا، يجيب ضاحكاً: «هذا حقيقي، ذلك أنني، بعد حصولي على البكالوريا، كنت أنوي الالتحاق بالجيش. هذا لم يكن مستغرباً آنذاك، بالنسبة إلى حفيد جنرال عثماني، وابن رجل أمن. لا أعلم كيف جنحت إلى الفن، وإلا لم يكن مستبعداً التورط في تلك الفترة بمحاولة انقلاب، على اعتبار أنها كانت رياضة شعبية في الجيش السوري».
في باريس عاش صدمة مضادة لصدمة حزيران، لعلها كانت علاجاً للمتاهة التي كان يتخبط بها. فبعد انتسابه بأشهر إلى جامعة «نانتير»، انطلقت منها الشرارة الأولى لثورة الطلاب (1968). وجد نفسه في قلب الحدث، وصوّر بكاميرته مشاهد من التظاهرات، قبل اعتقاله.
هكذا انتقل من مقاعد الدراسة إلى ممارسة السينما في الشارع. كانت هذه اللحظة انعطافة جذرية في حياة السينمائي الشاب، ليكتشف عن كثب أن «الملعب الحقيقي للسينما هو الشارع، أو الواقع اليومي». سوف يتأبط هذه الفكرة ويعود أواخر الستينيات إلى سوريا، محمّلاً أفكاراً يسارية. حمل كاميرته وذهب يصوّر عملية بناء سد الفرات. الفيلم لم يُعجب الرقابة، فتمّ منعه. «كانوا بحاجة إلى ريبورتاج دعائي لا إلى شريط نقدي». كرر التجربة بصحبة سعد الله ونوّس في فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية»(1974) الذي بات واحداً من التحف التسجيلية في السينما السورية. كان الفيلم كارثة حقيقية بالنسبة إلى لجنة الرقابة السينمائية، لفرط خشونته في تسجيل واقع البؤس في إحدى قرى الشمال السوري.
صاحب الأفلام الممنوعة سوف يغلق هذا القوس في تشريح الواقع السوري، بعيداً عن الشعارات والفكر الديماغوجي، بفيلم «الطوفان»(2003). سيعود إلى الفرات، بعد أكثر من ربع قرن، ليقف هذه المرّة، أمام الكاميرا وليس خلفها في برنامج «العدسة العربية»، ويروي تجربته في اكتشاف هذه الجغرافيا المنسية والمهملة إلى اليوم. «على العكس، ازداد البؤس، والتصحر أكبر مما كان، فيما تضخمت الشعارات، في ظل طبقة إقطاع جديد، أعادت إنتاج الواقع مرةً ثانية».
لا يبدو عمر أميرالاي حزيناً على مصائر أفلامه الممنوعة، بل يراهن على التاريخ: «أي مبدع يتحمل مسؤولية موقفه من الراهن، وعليه أن يتقبل الخسائر الآنية. لكنّ ما يصنعه استثمار رابح على المدى الطويل».
نشير إلى كتاب «النحت في الزمن» للمخرج أندريه تاركوفسكي الذي كان يحمله عمر بالمصادفة، ونقول له بنوع من العزاء: «أفلام تاركوفسكي تعرضت لمحنة مشابهة خلال المرحلة السوفياتية، ثم أُفرج عنها لاحقاً». يقول: «الخصومة المرحلية لسلطةٍ ما، مبارزة خاسرة، لأن الفن سلطة عابرة للأزمنة». لكن كيف يحمي المبدع العربي نفسه من التلوّث، في حالتك تبدو كما لو كنت مثقفاً أرستقراطياً؟ «لنقل إنني مثل الأرستقراطي الذي يبيع مفروشاته الغالية على دفعات، كي يحافظ على موت مشرّف، مثل الفرسان المهزومين. يجب أن تموت على ظهر حصانك، لا على ظهر مرسيدس».
يطبخ عمر أميرالاي مواضيعه على نار هادئة، وها هو ينهمك منذ فترة في تجميع وثائق وصور عن تاريخ الإمبراطورية العثمانية، انطلاقاً من سيرة جدّه الجنرال الذي كان حاكماً عسكرياً في أكثر من ولاية عربية. يشرح الفكرة منفعلاً: «آن الأوان لكسر منطق الحارة، فالانهيار العربي الذي نعيشه اليوم بكل تشرذمه وانحلاله، أتى محصلةً لانهيار الإمبراطورية العثمانية التي أفتخر بانتسابي إليها. أما دعوات التحرر من نير العثمانيين، فهي أكبر كذبة صنعها التيار القومي العربي في أروقة وزارة الخارجية البريطانية». يضيف محتداً: «كانت الاحتجاجات العربية على الاستبداد العثماني في عهد عبد الحميد الثاني، وجمال باشا السفاح، لا على الانتماء إلى الإمبراطورية. كانت حركات احتجاجيّة لا نزعات انفصالية. فيلمي سيُضيء هذا الالتباس المقصود، عن طريق سيرة عائلية وجنرال عثماني خدم الإمبراطورية إلى آخر يوم في حياته».
أما مشروعه الثاني، فيقتفي أثر سيرة ممثلة سورية محتجبة، كانت علامة فارقة في تاريخ السينما السورية، لكنها رُجمت بحجارة النقاد والمجتمع المحافظ، فانسحبت من المشهد. إنها «إغراء»، أو نهاد علاء الدين، وهي أول ممثلة سورية تغامر بالظهور عاريةً تماماً في فيلم «الفهد» للمخرج السوري نبيل المالح، قبل أن تُحجب اللقطة رقابياً. سيكون الفيلم «بورتريه» عن حياة هذه الفنانة الجريئة وسيرتها المغامرة. لعل هذا الشريط سيكون أفضل تكريمٍ لها وللسينما السورية.


5 تواريخ

1944
الولادة في دمشق لعائلة من أصول شركسية

1968
دراسة السينما في باريس، والمشاركة في ثورة الطلاب

1974
فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية»، بالاشتراك مع سعد الله ونوّس. مُنع الفيلم من العرض

2003
فيلم «الطوفان» الذي نال جائزة أفضل فيلم قصير من «معهد العالم العربي»2005

2009
يصوّر سيرة «إغراء»، أو نهاد علاء الدين، أول ممثلة سورية ظهرت عاريةً على الشاشة، ويعمل على مشروع وثائقي ضخم عن الإمبراطورية العثمانية