كمال خلف الطويل*حسنا فعلت الجزيرة يوم السبت 28 آذار/ مارس بتوفير منصة رد للسيد زيد سمير الرفاعي على تناول "هيكل" في برنامجه "تجربة حياة" بالجزيرة للسيرة الهاشمية، لما وفّره ذلك من فرصة ثمينة لفصد غثّ روايته عن سمينها – إن وجد – ووضع تأريخ مرحلة حساسة من تاريخ العرب الحديث على سكة الصراط والدقة. واللافت أن الرفاعي اعتلى منصته على القدم الخطأ عندما ابتدع تبريراً للقاء الملك حسين مع شخصية إسرائيلية للمرة الأولى في أيلول 1963 مؤداه أن مدعاته كان الاستنجاد بإسرائيل لتقنع لوبيها في واشنطن بتيسير حصول الأردن على أسلحة أمريكية... ولماذا؟ ليقاتل بها إسرائيل... طالما هو أرض الرباط وعلى امتداد خط مواجهة طوله 600 كلم؟
أرجو أن يعرب أحد لي هذا التفسير؟ "يرجى من عدونا تسليحنا لنحسن قتاله! الله!"
أم ترى كان يستبطن في تبريره أن تسليح الجيش الأردني لم يكن لقتال إسرائيل بل غيرها من الجيران؟!... يا حبذا لو يعود الرفاعي لشرح هذه النقطة مقايسة للمنطق.
بعد هذه المقدمة غير الموفقة يدلف الرفاعي لحلبة المواجهة مع هيكل وفق مسارات منتقاة:
1) أن عبد الناصر سبق وفاوض إسرائيل: سبق لي وتناولت هذه المسألة في مقال بالقدس العربي عدد 9 كانون الثاني/ يناير 2008... لكنني في عجالة أقول أن من جهد لعقد صلح مصري – إسرائيلي ما بين خريف 52 وحتى ربيع 56 كان الولايات المتحدة (مهمات أندرسون و جاكسون و جونستون، وفي الخلفية دوما كيرمت روزفلت). ورفض عبد الناصر كل تلك المحاولات.
2) أن الملك سمع من عبد الناصر في 30 أيّار/ مايو 67 عن اتفاق الدفاع المشترك مع سوريا: ذلك يغفل أن الاتفاق وقع علنا في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 66... أما أنه لم يكن يعرف الفريق رياض فلعمري أمر يحار المرء في هضمه وهو الذي كان في ديوانه قبلها بأسابيع ثلاث... ثمّ نعم الملك من طلب من رياض القدوم لعمان على عجل لقيادة جيشه.3) أن عبد الناصر، وقبله رياض، أجازا الانسحاب الأردني الشامل من الضفة الغربية الأربعاء 7 حزيران/ يونيو منذ مساء 6 يونيو/ حزيران: هذا صحيح... إنما الأهم لمَ؟ لأن حلقة الملك من وصفي التل وناصر بن جميل، عبورا بعامر خماش، ووصولا إلى محمد سليم البطاينة وزيد بن شاكر زخّت التقارير الواحد تلو الآخر على رياض منذ أول طلقة يوم 5 حزيران وحتى آخر ضوء من يوم 6 حزيران مدعيّة أن المحاور تسقط تباعا أمام قوة لا رد لها، وأن الطيران يحصد - دون اعتراض - المدافعين، وأنه من ثمّ لا بديل عن انسحاب تام لتوفير الجيش من فناء شبه أكيد.
أمام ذلك كله كان طبيعيا أن يوصي رياض بالانسحاب، اذ هكذا تضليل يودي لهكذا مذلّة.
4) أن ارسال الطائرات لقبرص كذبة "هيكيلية" بدليل أن طائرات الهوكر هنتر أغارت واشتبكت إلخ: هيكل كان يشير لطائرات "إف – 5 " والتي زودت الولايات المتحدة بها الأردن مطالع 67.... تلك من أمر عامر خماش في 1 يونيو/ حزيران بإرسالها لقبرص بالتنسيق مع الأمريكيين.
5) أن الملك تلقى رسالة من ليفي إشكول عبر الجنرال الدولي "أود بول" صباح الإثنين 5 حزيران ناصحة إياه بعدم التدخل لأن حرب إسرائيل هي على مصر وحدها: تلك مسألة صحيحة بالتمام والكمال وذلك فعلا ما كانت تنويه إسرائيل، أي سحق الجيش المصري في منطقة قتل ما بين العريش ورأس محمد بما يقود إلى إسقاط جمال عبد الناصر.
ويا ليت الملك استجاب وفعل، إذ ما كان في باله القتال بجد وإنما همروجة ذات دوي يقطّع بها الوقت لحين تبيّن مسار المعارك، فإن صمدت مصر فهو في المعمعة ولو سكّر خفيف، وإن تهاوت فسيوقف إطلاق النار من فوره... فإن اكتفى الإسرائيليون كان به وخير.. وبذا يكون قد نفذ من إبرة المطامع الإسرائيلية بالضفة، وإن لم، فعسى أن تكرهوا شيئا لأن إسرائيل لن تستطيع حكم مليون ونصف المليون فلسطيني لأمد طويل ولا بد ستعيد له الضفة بعد تلقين أهلـها وتحفيظهم آداب احترام الملوك.
6) أن الطيران الأردني هو الوحيد الذي قصف إسرائيل يوم الخامس من حزيران: وهو قول يغفل أن قاذفات التوبولوف – 16 العراقية منطلقة من قاعدتها H-3 شنّت أنجح الغارات على القواعد الجوية الإسرائيلية واشتبكت أخواتها المقاتلات مع نظيراتها الإسرائيلية فأسقطت منها ثمانية وقتل ثلاثة طيارين وأسر اثنين هوت طائرتيهما فوق العراق في غارة مقابلة.
7) أن عبد الناصر فوّض الملك في مؤتمر الخرطوم أن يستعيد الضفة الغربية سلماً: ذلك صحيح تماما بل وكرره ناصر علنا في خطب عدة أبرزها في يولية 69... لكن التفويض كان في أن يتفاهم مع الأمريكان لا أن يجلس لألف ساعة مع الإسرائيليين، وهم الصغير الذي ينفّذ أوامر الكبير إن وعندما تصدر له.
ما حدده عبد الناصر كان اتفاق إنهاء حالة حرب بين إسرائيل والأردن وقوات دولية على الحدود وتأمين زيارة اليهود لحائط المبكى... وليس التفريط بحقوق شعب فلسطين... أقصد ملف 48.
8) أن الملك طرد السفير الأمريكي بعمان في نيسان 70 لنصحه "سيسكو" وكيل الخارجية بإلغاء زيارته لها بسبب المظاهرات الشعبية الكبيرة ضدها وقتها: صحيح... طيب، بل لحقه الملك فهد بعقد ونصف فطرد السفير الأمريكي لديه "هوران".
ليقل لي أحد... هل أثّر القراران بمثقال ذرة على علاقات الولايات المتحدة بأيهما أو كليهما؟ بالقطع لا. لماذا؟ لأن واشنطن تفهّمت البعد الشخصي في علاقة الملكين بالسفيرين، وضحّت بالأخيرين على مذبح العلاقة الاستراتيجية مع الأول.
9) أن الولايات المتحدة فرضت حظراً عسكرياً على الأردن ما بين 67 – 71: كيف بالله إذن قاتل الجيش الأردني سنوات حرب الاستنزاف وقبلها " الكرامة" وبعدها "أيلول الأسود"؟ هل تسلّح لا سمح الله من الاتحاد السوفياتي، أم أن فرنسا سدّت الفراغ؟ دعنا لا نتذاكى على بعضنا الآخر.
10) وكأني بالرفاعي يستغيث بـ"مايلز كوبلاند" دريئة من هيكل وغمزا بقناة عبد الناصر من "هول" ما قاله مايلز عنه... كنت أتوقع من مخضرم بالأمن ودهاليزه أن يتورّع عن الإتيان بحديث إفك يعرف تماما دجله وزيفه، وممّن؟ من واحد أفنى الستينات وهو يحاول تقبيل قدم ناصر ليستأجره مقاول مخابرات عنده.
11) أما الزلّة التي حزنت لتورط الرفاعي فيها – وهو الذي أعدّ نفسه عبر أسبوعين للرد على هيكل – فكانت عندما ربط تسريب إدارة كارتر في 25 شباط/ فبراير 77 عبر جم هوغلاند -صحفي الواشنطن بوست - معلومة معاش المليون دولار من المخابرات المركزية للملك لسنوات عشر , ربطها بالضغط عليه ليوافق على كامب ديفيد.
الكامب عقد في أيلول 78.. وحتى لو قصد الرفاعي زيارة السادات للقدس فهي كانت في تشرين الثاني/ نوفمبر 77... إذن لا علاقة البتة بين التسريب والضغط – ان وجد - .
يومها كان الملك على وشك استقبال ياسر عرفات للمرة الأولى في عمان بعد أيلول الأسود، ولا أظن كارتر كان يضغط على الملك ليليّن عريكته في التعامل مع عرفات، أليس كذلك؟
ثم إن البداية كانت في ربيع 57، وليس 56.
لم يوفق الرفاعي في مهمته، ولا أخاله أو أحدا سواه كان ينال حظوة التوفيق. ولعلي أقول أن الملك ذاته ما كان سيسعد بهكذا دفاع، بل وسيؤكد كل ما قيل وكتب عنه لاتساقه مع ما عاش ومات عليه من إيمان بصيرورة تاريخية لا مناص منها للبقاء، والنماء، بل وانتهاز فرص تحويل الأحلام إلى واقع، وفي أقلّه درء تحولّها إلى كوابيس.
* كاتب عربي