نهلة الشهال«محرج، ولكنه منتخب، وبقوة شعبية. ثم إنّ القاهرة ستستقبله». هذا ما تقوله وزارات الخارجية في البلدان الأوروبية التي يزورها ليبرمان هذا الأسبوع، جواباً عن مطالبة حركات التضامن مع فلسطين بالامتناع عن لقائه. فتجد نفسك ترتكب فعل خيانة: «ولكن فرنسا (حيث يحل اليوم بعد إيطاليا)، بلد حقوق الإنسان»! يا الله، تمضي وقتك مشرِّحاً المكوّن الاستعماري أو الاستعلائي الذي كثيراً ما رافق الفكرة والممارسة، ثم تعتدّ بما فككت. أي بؤس هذا! وكم هو بائس الدخول في محاجة من قبيل أنك، وهنا بالذات، شرحت مراراً أن حكومة حماس منتخبة وشعبية ـــــ ما دام ذلك هو المقياس ـــــ وأن مقاطعتها عمل ظالم، علاوة على أنه خاطئ برغماتياً... ولكن الصلف الذي يواجهك ليس هو المسألة. وليس مهماً ملاحظة ـــــ للمرة الألف ـــــ ازدواج المعايير، والمعاملة المميزة التي تحاط بها إسرائيل مهما فعلت. كل هذه معطيات لا يمكن مجابهتها «من داخلها»، وفق منطقها هي، وبأدوات المحاجة المرتبطة بها، حيث الأمر ليس التوصل إلى الإفحام أو الإقناع، بل ليس حتى مرتبطاً بتوازن القوى الذي يُعتد به لتفسير عالم السياسة. فضلاً عن بؤس (ثالث) هو انتهاء كل الموقف إلى الاكتفاء بتسجيل حركات التضامن تلك لاعتراضها، بالقيام بتظاهرة أو اعتصام.
العطب القائم: الانفصام بين معطيات الواقع بخصوص المسألة الفلسطينية وأدوات مقاربتها على كل المستويات. ومن المدهش ـــــ والمعبّر في الآن نفسه ـــــ أننا نردد استنتاجاً سياسياً يقول إن العملية السلمية انتهت، (وهو الذي جعل وصول ليبرمان إلى السلطة ممكناً)، ثم لا نبني عليه نتائج. والمقصود بالعملية السلمية الحل المتفاوض عليه بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لا أي ترتيبات تُفرض كأمر واقع، وهو ما يُعمل له، ولم يتوقف، ولم ينتهِ.
يمكن بدايةً المغامرةُ بالقول إنّ أولى نتائج ذلك الاستنتاج هي توحيد عناصر المسألة الفلسطينية الأربعة: الضفة، وغزة، ووضعية فلسطينيي 48، ومسألة اللاجئين. وربما ينبغي إضافة القدس عنصراً خامساً يحوز قدراً مخصوصاً من الملامح. بات من الصعب فك هذه العناصر بعضها عن بعض، فهي حاضرة معاً كاستعصاء تام، ومتفاعلة. مثال من بين عدة: تفكيك الضفة بالمستوطنات والسيطرة على فضائها، يعزل القدس نهائياً، ويثير وضعية فلسطينيي 48 بفعل ما يقال له «تبادل أراضٍ».
كما أن عجز الحركة الفلسطينية بكل مكوناتها، وبغض النظر عن انتماءاتها الفكرية والسياسية، عن بلورة تصور لـ«اللحظة»، واستراتيجيات للتعامل معها، هو النتيجة الثانية للاستنتاج نفسه: فمردّ العجز أنه لم يعد من الممكن تلمّس الطريق ذاتياً، أي داخل الدائرة المحددة لفلسطين، ومن داخل اشتراطات الحركة الوطنية الفلسطينية. فحلّ الدولتين، الذي نشأت السلطة على أساسه، لم يعد واقعياً، ومثله الكفاح المسلح الذي يصعب تصور إمكانه محصوراً بفلسطين. يتطلّب ذلك مراجعة شاملة للنظرية الفلسطينية، هي انقلاب تام على ما بُني في العقود الماضية، رؤيا وعلاقات وتنظيماً. ولا يمكن افتراض ولادة ذلك من داخل الموجود، أي برضاه ومباركته، أو أقلّه وفق طاقاته: سيمسّ ذلك بالكثير من المصالح، وبالكثير من المألوف. إنه فعل ثوري بحق، بغض النظر عن الايدولوجيا الذي يتخذها، وهو يدخل في حسابه معطيات الوضعين العربي والعالمي، ليس كأبعاد للمساندة التقليدية، بل كميادين ضرورية للشراكة.
يقود الخيال السياسي إلى نتيجة ثالثة: ما دام لا حلّ عملياً قابلاً للوصول إليه بالتفاوض، ولا شروط للكفاح المسلح، فلا وسيلة إلا بمغادرة الإطار ـــــ السجن العقيم القائم نحو أفق يأخذ في اعتباره مجمل المعطيات كما تقدم نفسها، ومجمل الضرورات غير المستوفاة. لا بد أولاً، وقبل كل شيء، من ترميم تصور كامل للمسألة الفلسطينية، ينقذها من عملية التفكيك والضبابية وفقدان المعنى الذي أدى إليه انحطاط العملية السلمية (وانحطاط قواها بالمعنى الحرفي للكلمة، وتحوّل تلك القوى إلى ستائر فحسب للخطة الإسرائيلية)، وينقذها من الاعتداد فحسب بالمحاجات المبدئية بشأن الحقوق، بما فيه الحق بالمقاومة المسلحة. كلاهما لا ينتج استراتيجيا تتكوّن حولها قوى فاعلة، وتحالفات متعددة الدوائر، وخطط عملية تكتيكية في كل الميادين، أي دينامية الوجود السياسي. الحل التاريخي يفرض نفسه كمقترح للنضال وكأفق للتحقق: دولة ديموقراطية لكل مواطنيها! وهي دولة تستوعب اليهود الإسرائيليين الراغبين في البقاء في المشرق، كأبناء له، بلا استعلاء ولا تميّز، وإنما بلا اضطهاد. تلك هي عناصر «الصفقة»! وذلك ما يسمح باستشراف يوم ينتهي فيه الانشغال بإسرائيل، الحقيقي أو الكاذب، لا يهم، ولكنه انشغال معطّل لكل ما عداه أو مفسد له. وذلك ما يجسد رفض الوقوع عبداً تحت أقدام ليبرمان!
اقتراح غير واقعي؟ ولكن ما هو المطروح واقعياً، الذي يتجاهله الاقتراح؟
ليبرمان في أوروبا... ولمَ لا؟
- افتتاحيات
- نهلة الشهال
- الثلاثاء 5 أيار 2009