ياسين تملالي*يتساءل الكثيرُ من الجزائريين وهم يقرأون أنباء اعتقال مواطنين «جاهروا بالإفطار في شهر رمضان»: هل بلدهم في طور التحول إلى دولة دينية، وهل مآل الشرطة الجزائرية أن تصبح شرطة مطوعين، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ضرباً بالسياط في الطريق العام؟ من المستبعد أن تتحول الجزائر إلى «دولة دينية» (من غير المحتمل أن يقبل الجيش بسيطرة الإسلاميين، ولا حتى من يهادنه منهم، على مؤسسات الحكم الحساسة)، لكنها اليوم بالتأكيد دولة تنتهك آخر ما بقي محفوظاً من الحريات الفردية. فبين الحكم العلماني الصرف والحكم التيوقراطي الخالص أشكالٌ وسيطة كثيرة ما فتئت السلطة تجربها الواحد تلو الآخر منذ الاستقلال. ولتجاوز أزمة أيديولوجيتها الشعبوية، تحاول السلطة أن تصبغها بصبغة دينية أكثر جلاءً، آخذة في الحسبان تنامي مظاهر التدين الشعبي كازدهار «صناعة الفتوى» وتحول الحجاب إلى ما يشبه الزي الوطني في كل أنحاء البلاد، باستثناء كبرى المدن، وسريان عادات لم تكن مألوفة من قبل كإغلاق بعض المحال التجارية أبوابها في أوقات الصلاة. وفيما يبدو مفارقة حقيقية، بدأ ازدياد مظاهر التدين في أواخر التسعينيات، أي في وضع ميّزه انهزام الحركات الإسلامية الراديكالية. فجبهة الإنقاذ أخفقت في الاستيلاء على السلطة في 1991، وجناحها العسكري وضع السلاح في إطار قانون «الوئام المدني» سنة 2000، فيما بدت باقي التنظيمات الإسلامية المسلحة (الجماعة السلفية للدعوة والقتال، أو ما يسمى حالياً «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، حماة الدعوة السلفية، إلخ) عاجزة عن تكوين امتداد سياسي شعبي لنشاطها العسكري. والحقيقة أن هذه المفارقة ظاهرية لا غير. فموجة التديّن التي تشهدها الجزائر ليست بالمعنى الدقيق «سياسية» كما في الثمانينيات، عندما كان إطلاق اللحية والتحجب تعبيرين بليغين عن الانتماء إلى المعارضة الدينية المحظورة. من هذا المنظار، لا فرق بينها وبين موجات التدين في غيرها من بلدان العالم، فهي، مثلها، تعبر عن انتشار فكرة أن الحل الإلهي سبيلُ الخلاص الفردي الوحيد بعدما فقدت الحلول الجماعية صدقيتها.
ولا تتورع السلطة عن استغلال موجة التدين هذه، فهي بعدما نضب معين «شرعيتها الثورية» وعصفت سياساتها الليبرالية بمظلتها «الوطنية» (التي طالما حمتها من الانتفاضات الشعبية المتوالية منذ مطلع الثمانينيات)، تبحث لنفسها عن شرعية جديدة، وخاصة أن انحسار المد الإسلامي المسلح حرمها من ذريعة طالما استعملتها لتمرير مشاريعها.
وعكس ما يتصور بعض «الحداثيين» ممن يجازفون بإضفاء رداء العلمانية على حكم سنوات السبعينيات، ليس استغلال السلطة للدين حدثاً جديداً (لم يعدم عهد بومدين «التقدمي» حملاته ضد «الانحلال الأخلاقي»)، كما أن دافِع الجيش لدخول الصراع ضد جبهة الإنقاذ لم يكن «حماية الجمهورية» بقدر ما كان حماية الطبقات الحاكمة من حزب نجح في استقطاب قسم كبير من الشرائح الشعبية «الخطرة». ولا أدل على ذلك من أن هذا الصراع متواصل بالتحالف مع «الإسلاميين المعتدلين»، سواء شاركوا في الحكومة كحركة مجتمع السلم (حمس) أو لم يشاركوا فيها كحركتي الإصلاح والنهضة. ولـ«تأسلم» السلطة الانتهازي تجليات أخرى عدا ملاحقة المفطرين في رمضان واعتقال المسيحيين بتهمة التبشير، منها ظهور الرئيس بوتفليقة في العديد من المناسبات (الانتخابية وغير الانتخابية) برفقة شيوخ الطرق الصوفية وفرضه عبد العزيز بلخادم على رأس جبهة التحرير (الحزب الأوحد الأسبق) على ما يعرف عن هذا الرجل من أنه حين كان رئيساً للبرلمان، في أوائل التسعينيات، دافع بحماسة كبيرة عن «أسلمة التشريعات الجزائرية»، أي مطابقتها مع أحكام الشريعة. هُمش عبد العزيز بلخادم ومحافظو النظام في التسعينيات لأن الجيش اشتم فيهم رائحة مهادنة جبهة الإنقاذ، لكنهم عادوا إلى الساحة بقوة في بداية هذا العقد، متحالفين مع تنظيمات تقاسمهم هلعهم من كل مد اجتماعي راديكالي (سواء كان إسلامياً أو غير إسلامي). وأهم هذه التنظيمات «حمس» والنهضة والإصلاح (وكلها منبثقة عن تيار الإخوان المسلمين)، وكذلك جمعية العلماء المسلمين، وهي سليلة جمعية كانت أحد مكونات الحركة الوطنية وإن كانت من أقلها إيماناً بمطلب الاستقلال.
وتجلى هذا التحالف في إشراك «حمس» في «التكتل الرئاسي» المساند لرئيس الجمهورية وازدياد الصبغة الدينية للخطاب الرسمي، كما تجلى في مراجعة تاريخ الحركة الوطنية بهدف تضخيم إسهام مكوناتها الدينية في نيل الاستقلال. عبد العزيز بلخادم مثلاً قال في أحد تصريحاته للصحافة (في أيار/ مايو 2008، وكان آنذاك رئيس الحكومة) إن الجزائريين «تحرروا من الاستعمار لأنهم التفوا حول القرآن وجعلوا منه دستورهم». ولو قيل هذا الكلام في ظرف سياسي آخر لأثار حفيظة رموز الحركة الاستقلالية ممن يذكرون أن زعماء جمعية العلماء المسلمين ماطلوا في مساندة الثورة، ما حدا ببعض قادة جبهة التحرير إلى التفكير بتصفيتهم. ولا تدعو جمعية العلماء إلى إقامة حكم ديني، وتكتفي بمطلب تكثيف حضور الإسلام في

بين الحكم العلماني الصرف والحكم التيوقراطي الخالص أشكالٌ وسيطة كثيرة ما فتئت السلطة تجرّبها

الحياة العامة. لكن حدة لهجتها ضد من تسمّيهم بالعلمانيين تتصاعد يوماً بعد يوم، فأصبحت لا ترى غضاضة في التشكيك في وطنيتهم، مع أن بعضهم (كزعيم جبهة القوى الاشتراكية، حسين آيت أحمد) سبق آباءها الروحيين بعشر سنوات إلى اختيار الكفاح المسلّح نهجاً لتحرير البلاد. أما «حمس» والنهضة والإصلاح، فعبرةً بما آلت إليه حال جبهة الإنقاذ، لم تعد رسمياً تطالب بالدولة الإسلامية، وهي في انتظار أن تسنح لها الفرصة «لأسلمة النظام»، تركز جهودها على «أسلمة المجتمع»، وعلى ترقية كوادرها في المناصب الإدارية والسياسية (رئيس «حمس»، أبو قرة سلطاني، مثلاً، وزير دولة لدى رئيس الجمهورية، مثله مثل رئيس جبهة التحرير، عبد العزيز بلخادم).
وبقدر ما تسعى هذه التنظيمات إلى «إصلاح المجتمع»، تلتزم الصمت عما يطبع تسيير البلاد من فضائح مجلجلة. لا اهتمام لصحيفة جمعية العلماء، «البصائر»، بإهدار المال العام وانتشار الفقر والبطالة وما يسببانه من انتفاضات لم تنقطع منذ انتفاضة المنطقة القبائلية سنة 2001. كذلك حال حركة النهضة وحركة الإصلاح (منذ أن أزيح عبد الله جاب الله من زعامتها). جُل كلامها عن «الأزمة» كلام غائم عام قد لا يتحرج رئيس الدولة نفسه من قوله. أما «حمس»، فلا يمنع «تفوق الفكر الإسلامي» وزراءها من تسيير أعمالهم في إذعان تام للقوانين الوضعية، وهل أدل على ذلك من أن الإسلامي هاشمي جعبوب، وزير التجارة، هو من يتفاوض باسم الجزائر مع منظمة التجارة الدولية؟
وتضفي هذه التنظيمات على النظام القائم شيئاً من الشرعية يمكنه من مجابهة الحركات الاجتماعية الراديكالية التي تهدده. ولا ضرورة للتنويه بأنها تشاركه مقته هذه الحركات، وأن برنامجها السياسي الآني («إصلاح المجتمع» بتعميم الحجاب وإغلاق الحانات واعتقال المفطرين في رمضان) لا يزعجه ما لم يطلق العنان (كما في أواخر الثمانينيات) لقوى اجتماعية ترى العودة إلى الدين وسيلة للخلاص الجماعي لا مجرد أداة للخلاص الفردي.
وتحول نخبوية جمعية العلماء دون تحولها إلى تنظيم جماهيري، فيما تبدو حمس، بسبب سياسة احتلال «المقاعد الشاغرة» التي تمارسها منذ حظر جبهة الإنقاذ في 1992، أبعد ما تكون عن أن تمثّل بديلاً شعبياً ذا صدقية. أما حركتا النهضة والإصلاح فقد حرمتهما انشقاقاتهما المتوالية من قواعد معتبرة فضلت مبايعة رئيسهما الأسبق، عبد الله جاب الله، زعيماً دون حزب. ليس خطر هذه التنظيمات إذاً هو استيلاءها قريباً على السلطة بل نمو تيارات أكثر راديكالية في تربة «الصحوة الدينية» التي تسعى إلى تشجيعها. ألم يتحول المشروع الإصلاحي لـ«جمعية القيم» في الستينيات، بمر الزمن وتوالي الأزمات، إلى مشروع استيلاء على السلطة حاولت تنفيذه جبهة الإنقاذ؟
* صحافي جزائري