حسان الزين


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

يشبه ما يقوم به زياد الرحباني ويقوله، في هذه الأيام، مسرحياته. فهو ينظّم حفلاً موسيقياً دعماً للتيار الوطني الحر في معركته الانتخابية. ثم، بعد أشهر قليلة، يطلّ عبر شاشة “المنار”، التي وإن كان فيها قد ميّز نفسه، كشيوعي، عن الإلهيّين في ايديولوجيته وقراءته نصرَ المقاومة على الجيش الإسرائيلي في حرب تموز 2006، فإنّه قدّم ما يشبه التوأمة “الأخلاقية والوطنية والثورية” بين حزب الله والحزب الشيوعي. ثم، أخيراً، ينظّم احتفالاً في الذكرى الـ27 لانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ويدعو إليه الكاتب الصحافي الزميل جان عزيز، ليتحدّث عن تجربته الشخصية مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 كمنتمٍ إلى الجهة السياسية اللبنانية المتواطئة مع إسرائيل، التي غادرها حزبياً، ويبذل جهداً فكرياً لتفسير تميّزه وتجدّده.
يعبّر رمز الشيوعيّين زياد الرحباني، على طريقته، عن رؤيته السياسية الراهنة، منطلقاً من مجموعة قواعد يعدّها من ايديولوجيته وانتمائه، وهي مقاومة إسرائيل ومواجهة أميركا في المنطقة ومعارضة أحزاب وقوى طائفية تناهض المقاومة. وترجمةً لهذا يجد زياد الرحباني نفسه قريباً من المعارضة، معجباً بحزب الله وواثقاً به وبقائده، ومقتنعاً بخصومة التيار الوطني الحر مع المارونيّة السياسية التاريخية وتشكيلاتها الحزبية، وتحديداً الكتائب والقوات اللبنانية.
الواضح، أن مواقف زياد الرحباني هذه لم تأخذ حصتها من النقاش بينه وبين جمهوره عموماً، والحزبيين الشيوعيين خصوصاً، هؤلاء الذين نصّبوه بطريركاً عليهم ولهم، وتعلّقوا به كونه الفنان الأبرز الذي يصرّ على هويته الشيوعية، وهم يجدون فيه متنفّساً وأباً حزبياً وخشبة خلاص ويتغذّون من مواقفه الثابتة المتّسمة، بالنسبة إليهم، بالعبقرية.
وسط هذا، ومع سرعة زياد الرحباني في التعبير عن مواقفه، يبدو أن ثمة بين محازبيه وجمهوره من لا يقبل بما يجري، ومن يرى أن زياد يهدي نفسه كرمز إلى حزب الله والتيار الوطني الحر. فالمشكلة الكبرى، بالنسبة إلى هذه الفئة، أن زياد الرحباني يفعل ما يفعله ويقترب رمزياً وسياسياً من حزب الله ـــــ الوطني الحر من دون الحزب الشيوعي، الذي لا يبدي هذا الثنائي اهتماماً به، ولا ضمَّه إلى لوائح المعارضة في الانتخابات النيابية.
كأن ثمة لدى هذه الفئة الشيوعية، ولا سيّما ممن اعترضوا على مشاركة جان عزيز في احتفالية زياد الرحباني بذكرى المقاومة (علماً أنهم لم يعترضوا بقرار حزبي)، غيرة على حزبهم الشيوعي، الذي يريدون لزياد الرحباني أن يتماهى به لا أن يفترق عنه أو يُظهر تمايزاً عنه. ولعلهم يريدون لزياد أن ينتصر لحزبهم ويتميّز عن تحالف حزب الله ـــــ الوطني الحر. لكن، سواء اختلف زياد الرحباني أو اتفق مع الحزب الشيوعي الذي ارتبط به تاريخياً حتى من دون انتساب، كما أعتقد، فثمة فارق بينهما. وهذا ما لا ينتبه إليه الشيوعيون ولا يريدونه. ثمة مساحة شخصية، إذا جاز القول، بين زياد الرحباني والحزب لا يرغب الشيوعيون في رؤيتها أو الإقرار بها. وبدوره زياد لم يُشر إليها ولم يمارسها علناً وصراحةً يوماً، ولا سيّما في السنوات القليلة الماضية. وإذا كان عدم رؤية ذاك الفارق من العوارض السيكولوجية التي تصيب الجماهير وهي تتعلق بأي خشبة أثناء الغرق وسط البحر المتلاطم، فإن زياد الرحباني شخصياً يتحمّل جزءاً من المسؤولية في ذلك، إذ لا ينفكّ يقدّم نفسه كراية حمراء ترفرف فوق الأطلال والخراب العام والخاص. وهو يفعل ذلك من دون مراجعة فكرية وسياسية وحزبية يجريها الشيوعيون، وهو منهم. ما يجعل جهده يبدو عناداً وإصراراً وثباتاً. وماذا تريد فئات جامدة فكرياً وسياسياً وحزبياً أكثر من ذلك؟
المعضلة تكمن في ضعف النقاش وآليّاته، وربما في شروع زياد الرحباني باللقاء مع الآخر القريب جدّاً، أي التيّار الوطني الحرّ وحزب الله، ومن محطّاته الأولى استضافة جان عزيز في احتفال المقاومة الوطنية، قبل الحوار مع “أهل البيت”. الإشارة التي مسّت تلك المجموعة التي يمثّل زياد الرحباني مصدراً أساسيّاً في وعيها وثقافتها وسلوكها اليومي. فهؤلاء الشباب والكثير من أترابهم، من شيوعيين وغيرهم، يعيشون انسداداً في الأفق الوطني، ولا مؤسسات ديموقراطيّة، حزبية وغيرها، أمامهم. وتالياً، أصواتهم غير مسموعة ولا تأخذ مجرى طبيعيّاً مطمئناً إليهم.
هنا، ثمة دور لزياد الرحباني وجان عزيز وتلك المجموعة وغيرهم ممن لا يريدون لأصواتهم أن تبدَّد في الصناديق والأماكن المقفلة على نفسها. دور في الحوار واختراع الأطر الديموقراطيّة التي تفتح على مطارح جديدة خارج الأطر القائمة والعقيمة وغير الحقيقية في اصطفافاتها الموروثة التي يعيد الطاقم السياسي إنتاجها.
والمقاومة الوطنيّة، مثلما جعلها زياد الرحباني مساحة للتلاقي، ومثلما ارتقى بها جان عزيز كفرصة طويلة الأمد للشفافيّة الإنسانيّة والسياسية ولفحص الضمير والنظر في الإنسان والمستقبل والبلد، هي أرض للحوار بما يتجاوز السلاح والاستراتيجيّات المذهبيّة.