بعد إعلان الحكومة الاسرائيلية إدراج موقعي قبّة راحيل والحرم الإبراهيمي على لائحة مواقعها الأثرية، بدأت التظاهرات. ولكنّ تهويد هذين الموقعين كان جارياً منذ عقود، وإدراجهما إنما هو الخطوة الأولى قبل جرد أكثر من 150 موقعاً أثرياً. وكالعادة، أتى تعامل السلطات الفلسطينية ضعيفاً قياساً بخطورة ما يجري
أسامة العيسة
على طريق القدس ـــــ الخليل، تقع قبة راحيل، وهي مقام فلسطيني، يربط بين مدن المثلّث المقدس: القدس، وبيت لحم، والخليل، وهو مثل مقامات ومواقع فلسطينية أخرى، أقيم خلال تراكم حضاري طوال قرون، لأسباب ليست دينية فقط، بل اجتماعية واقتصادية وتاريخية وجغرافية أيضاً، وفي أول جلسة للحكومة الإسرائيلية بعد حرب حزيران 1967، كان هذا المقام في أعلى أجندة الاحتلال الجديد، فسيطر الجيش الإسرائيلي عليه، وقصر استخدامه على اليهود، ومنع المسلمين والمسيحيين من الدخول إليه. وبعد اتفاق أوسلو 1993، تسارعت عملية تهويد الموقع، وحوّلته سلطات الاحتلال ثكنة عسكرية، بداخلها معهد ديني يهودي. وسقط برصاص جنود الاحتلال المتمركزين على أبراج هذه الثكنة عدد كبير من الفلسطينيين، جلّهم من الأطفال، خلال عمليات الاحتجاج على تهويد المقام، ولكن في حينها لم يعطَ الأمر أهمية لأن تصنيفة لم يكن رسمياً.
قبل التغييرات الكبيرة عليه كان يمكن رؤية المقام ببنائه المملوكي، الذي كان السكان المحليون يسمّونه «قبر ستنا راحيل» لأن لارسيبوس، أسقف قيسارية، وغيره من علماء القرن الرابع الميلادي قالوا إن راحيل، زوجة النبي يعقوب، دُفنت في هذا الموقع، عندما فاجأها مخاض الولادة فتوفيت. ولكن السلطة الفلسطينية أطلقت على مقام قبة راحيل كله، بطريقة انفعاليّة، اسم مسجد بلال بن رباح، علماً بأن ثمة مصلّى صغيراً داخل المقام يحمل هذا الاسم، والمقام هو مركز حج للمسلمين. وهي بجعل المقام كله يحمل اسم المصلى تخلّت عن تراث متراكم يؤكد أن أرض فلسطين معقل للديانات السماوية. وتجاهلت السلطة أيضاً حقيقة أنّ المقام والحرم الإبراهيمي يقعان في أرض محتلة وفقاً للقانون الدولي، ما لا يسمح لقوات الاحتلال بإعلانها مواقع أثرية!
الإعلان الفلسطيني الخاطئ سمح للإسرائيلين بالادّعاء أكثر فأكثر بأن هذا المقام يهودي، حثّهم حتى على إعطاء توضيح عن أهمية راحيل والعائلة الإبراهيمية بالنسبة إلى اليهود، لذا، أُدرج الحرم الإبراهمي أيضاً ضمن اللائحة. ويقع الحرم وسط بلدة الخليل القديمة، التي تحوي بؤراً استيطانية يهودية، وتبدو كمدينة أشباح، لأن كثيرأً من سكانها هجروها بسبب ممارسات المستوطنين وجنود الاحتلال وعمليات التفتيش الدقيقة التي يخضعون لها.
ويعود بناء الحرم إلى نحو ألفي عام، أي إلى فترة حكم هيرودس لمقاطعة فلسطين الرومانية، في الفترة البيزنطية شيدت كنيسة على الموقع، ولكنها خدمت خلال حملة الفرس، وشيّد على أنقاضها جامع بنيت قببه في الفترة الأموية. في الفترة الصليبية حوّل الجامع إلى كنيسة ولكن بعد انتصاره في معركة حطين، بنى صلاح الدين الأيوبي الجامع ذا المئذنتين. وداخل أسوار الحرم تقع مغارة الأنبياء، التي تضم أضرحة العائلة الإبراهيمية، من أبي الأنبياء إبراهيم، وأبنائه وزوجته سارة إلى زوجات الأبناء مثل رفقة زوجة إسحق ولائقة زوجة يعقوب. وحسب العهد القديم، فإن النبي إبراهيم، بعد وفاة زوجته سارة، اشترى مغارة «المكفيلة» من عفرون بن صوحار الحثّي بأربعمئة شيقل، وهو ما يعدّه المستوطنون اليهود أقدم صكّ بيع في التاريخ يؤكّد أحقيتهم في الموقع، والذي يحاجج فلسطينيون، وفقاً لهذا المنطق بأنه لهم، باعتبارهم أحفاد الحثيّين والكنعانيين، فيما لم تثبت أثرياً وتاريخياً أيّ علاقة للموقع بأيّة قصص دينية أو قبور أنبياء.
بعد الاحتلال، تحكّمت سلطات الاحتلال في الحرم، وضمن خطة منهجية، رافقها بناء بؤر استيطانية في قلب الخليل، ومدن استيطانية حولها، أصبح الحرم الآن يخضع للسيطرة الإسرائيلية المشدّدة، وهو مقسّم بين اليهود والمسلمين، تقسيماً غريباً، وغير متساوٍ، وفي الأعياد والمناسبات اليهودية الكثيرة، يُغلَق في وجه المسلمين إغلاقاً تامّاً. وعلى جنبات الحرم الإبراهيمي، وبالقرب من أضرحة العائلة الإبراهيمية، وهي أضرحة أموية ومملوكية وفاطمية، سُفك الكثير من الدماء، وأبرزها ما عُرف باسم مجزرة الحرم الإبراهيمي يوم 25 شباط (فبراير) 1994، عندما فتح باروخ غولدشتاين النار على المصلين فجراً فقتل نحو أربعين منهم.
وبالنسبة إلى واقع قبة راحيل والحرم الإبراهيمي على الأرض، فان الإعلان الإسرائيلي الأخير، لا يغيّر من الأمر شيئاً، فأبوابهما شبه مقفلة بوجه المصلّين منذ زمن، ولكن يُخشى أن يكون هذا مقدمة لخطوات تهويدية أخطر، مثل بناء وحدات استيطانية في محيط قبة راحيل، وهذا يعني الاستيطان وسط بيت لحم، المحاطة بنحو 22 مستوطنة، يسكنها 80 ألف مستوطن، وتهويد الحرم الإبراهيمي بالكامل، وطرد المسلمين منه، الذين يدخلونه ضمن إجراءات أمنية مشدّدة جداً.
وقد أتى قرار إدراج الموقعين خلال إطلاق أكبر خطة لتعزيز المواقع التراثية على مدى ست سنوات، بكلفة تزيد على مليون دولار، وتتولى تنفيذ الخطة لجنة وزارية يترأسها رئيس الوزراء. وقد يكون الأخطر هو ما تنفذه إسرائيل بدون إعلان، فوفقاً لمعلومات صحافية فإن الحكومة الإسرائيلية أعدّت 150 موقعاً لإدراجها باسم إسرائيل على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، وبهذا تصبح هذه المواقع إسرائيلية بتغطية عالمية!