أمس، كانت المناورة رقم 197 التي نظّمتها «يازا»، بالتعاون مع الدفاع المدني. في تلك المناورة التي حملت عنوان «مناورات مميزة على الإنقاذ والإسعاف من حوادث سير وحرائق افتراضية»، تحوّل انتباه الصحافيين من التركيز على التوعية إلى التركيز على «حال» الدفاع المدني. فقد كشفت المناورة ضعفاً كان مستوراً في هذا الجهاز ما عاد بالإمكان التغاضي عنه في بلد مثل لبنان معرّض في كل حين للأزمات
راجانا حميّة
مصاب عالق في الطبقة الرابعة في مستشفى جبل لبنان. لا أحد قادر على إنقاذه. الحريق في المبنى يعوق نزول العالقين في المبنى وصعود المسعفين. لا السلالم آمنة في تلك اللحظة، ولا المصعد الكهربائي... والارتماء من الطبقة الرابعة آخر الاحتمالات. عشر دقائق. عشرون أخرى. عناصر الدفاع المدني ما بين الطبقتين الأولى والرابعة يجهزون أدوات الإسعاف التي يغلب عليها «الحبال». المدير العام للدفاع المدني، درويش حبيقة، عند المدخل وبعض العناصر وأشخاص كثر يراقبون عملية الإنقاذ. تمرّ عشر دقائق أخرى. يصل المسعفون وحبالهم إلى الطبقة الرابعة، حيث المصاب. يضعونه فوق «البرنكار» (الحمالة). يحوطون عنقه بحزام يمنع حراكه، وينزلونه بحبالهم وأيديهم إلى الأرض، حيث ينتظر المسعفون لنقله إلى المستشفى.
استغرقت العملية 20 دقيقة. في الأحوال العادية، كان يمكن المصاب أن يموت خلال هذا الوقت، حرقاً او اختناقاً مثلاً، لكن الحمد لله أنها كانت مجرد مناورة... من تنظيم «يازا»، بالتعاون مع المديرية العامة للدفاع المدني والجمعية اللبنانية للوقاية من الحرائق وشبكة سلامة المباني. الهدف؟ «أن نعرف ما هي احتياجات الدفاع المدني والعقبات التي قد تواجهه في الأزمات»، يقول رئيس «يازا» زياد عقل.
لكن، ماذا لو كان ما حدث أمس حقيقياً؟ ماذا لو شب الحريق وعلق من علق في ذلك المبنى؟ وماذا لو كان ذلك الحريق في طبقة أعلى من قدرة الدفاع المدني على الوصول إليها؟ ماذا كان سيفعل رجال الدفاع المدني في مثل هذه الحال، وهم العاملون على ما يبدو بقوة «الدفع الإلهي» من دون تجهيزات كافية؟ أسئلة خطرت في بال من تابع مناورة أمس. ساعة من الشرح حول مبادئ الإنقاذ والإسعاف انتهت... بدعاء بعض المتفرجين ألا يحدث حريق مبانٍ في لبنان، وأن يحميه الله من الكوارث الطبيعية».
الآن، لا زلازل ولا حرائق. هي مناورة افتراضية «مميزة»، حسب ما ورد في بطاقة الدعوة. لكنها، بالحقيقة كانت «فقريّة» أي «على قدّ» تجهيزات عناصر الدفاع المدني. ورغم هذا، كان ثمة جهد من العناصر لجعلها مقبولة على الأقل. تضمنت المناورة خمس مراحل: إخلاء مصابين ومحتجزين بواسطة الحبال. إخلاء بواسطة سلّم الهيدروليك. سحب مصاب من تحت السيارة بواسطة وسادات الدفع. تحرير مصاب محتجز داخل سيارة. إطفاء حريق شب في سيارة.
204 مراكز فيها 70 مقصاً لقصّ سقف السيارة
خمس مراحل استغرقت 45 دقيقة. وقتٌ أكثر من كافٍ لإنقاذ خمسة مصابين، لكن قد يصبح الأخير مبرراً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الشروح التي رافقت كل عملية. لكن، ما هو ليس مبرراً هذا الاستهتار بتجهيز مديرية على هذه الأهمية الحيوية، بالمعدات التي «ناضلت» المديرية للحصول عليها، واعتماد الدفاع المدني إلى هذه الدرجة على المتطوّعين. فحسب ما أشار حبيقة في اللقاء الذي أعقب المناورة، أن هناك ما لا يقل عن 5400 متطوعٍ، مقابل 740 متعاقداً وأجيراً، معظمهم في العقد السادس من العمر. ومع الوقت قد لا يبقى إلا متطوعون، إن بقي مرسوم تثبيت هؤلاء العناصر مدفوناً في أدراج مجلس الوزراء، رغم مرور تسع سنواتٍ على وضعه. أمس، أمام مبنى المستشفى، كان الواقع يشبه ما هو موجود فعلاً في المديرية. فقد كان في المناورة 4 موظفين متعاقدين وحوالى 20 متطوعاً. لا أحد يجبر متطوعاً على الحضور، إلا حسّه الإنساني. لكن، هذا المتطوع على شجاعته، يفتقر إلى الكثير من المعلومات. فأمس، كان الفارق واضحاً بين المتطوع والمتعاقد الذي خدم 20 و30 عاماً. في مناورة سلم الهيدوليك، سأل أحد المتفرجين عنصراً في الدفاع المدني «شو بسمّوها هيدي العملية»، فلم يكن من المسعف إلا الرد بعبارة «اسأل يوسف» (يوسف الخوري رئيس في غرفة العمليات المركزية في الدفاع المدني). ماذا لو لم يكن يوسف هناك؟ وكم يوسف ينقصه الدفاع المدني؟ عن هذه الأسئلة أجاب حبيقة في اللقاء الحواري المتعلق بمهمات الدفاع المدني وإنجازاته وحاجاته. قال الكثير عن إنجازات مديريته. وقال أكثر عن الحاجات والمشاكل التي يعاني منها هذا السلك، الذي يحصّل بصعوبة من الدولة موازنته البالغة 13 مليون دولار، وهي نصف قيمة الهدية التي يهديها الملك الأردني لمديرية الدفاع المدني هناك، كلما قام بزيارة لها، حسب حبيقة.
فقر المناورة التي تمت أمس تدلّل على الفقر الفاضح والعابث بمراكز الدفاع المدني، البالغ عددها 204 مراكز. فمعظم تلك المراكز تعاني «نقصاً فادحاً في التجهيزات»، كما يشرح حبيقة. وهو حين يشرح لا يقول «فيها كذا وكذا»، بل يقول «من المفترض أن يكون فيها كذا وكذا». 204 مراكز من المفترض أن يكون في كل واحد منها سيارتا إسعاف وسيارتا إطفاء وجرافة. لكن، ماذا يوجد فيها؟ بضع جرافات وبضع سيارات إسعاف جديدها عمره 12 عاماً، وسيارات إطفاء لا يقل عمر الجديدة فيها عن عشر سنوات. بتفصيل أكثر: 204 مراكز فيها فقط 70 مقصاً لقص سقف السيارة أو أبوابها في حال حوادث السير. ما يعني «مركز إيه. مركز لأ». أما السبب، فبحسب حبيقة: «لما بنعمل مناقصات، ما بنوصل لنتيجة إيجابية».
ما العمل؟ «نطلب ألا يظلمنا أحد، ومن سيظلمنا فليتطوع معنا ليومين فقط، وليعش ما نعيشه». ثمة حل آخر اقترحه عقل من جمعية يازا، «أن يرصد مجلسا الوزراء والنواب الاعتمادات اللازمة للدفاع المدني». ويتبع عقل الحل بدعوة ملحّة للكل «أن يتذكروا دوماً الرقم 125، وهو رقم الدفاع المدني». وفعلاً أصاب الرجل عندما قال «تذكروا»، فالتذكر والاتصال لن يفيدا كثيراً إذا ما كانت الحال على ما ظهر أثناء هذه المناورة الافتراضية التي كان من آثارها تظهير واقع مرّ، من الواجب «إسعافه» على جناح السرعة.