18 ناشطاً وصحافياً لا يزالون محتجزين في سجن جيفون الإسرائيلي. تعرّض عدد منهم للصعق بالكهرباء، وعدد آخر للضرب. باختصار، جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يميّز بين أصحاب الجنسيات، ويمارس تعذيبه على كل من يقع بين أيدي جنوده، وخصوصاً أنّ التهمة: « الدخول غير الشرعي إلى الأراضي الإسرائيلية عن سابق معرفة وتصميم». ليس هذا بأمر جديد على الإسرائيليين، الذين حوّلوا استيلاءهم على المركبين إلى قضية أمن قومي ومكافحة الهجرة غير الشرعية.
كيف يمكن اعتراض مركب في المياه الدولية أن يصبح تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي؟ ومن قد يمتلك، في العالم، طموحاً بالهجرة إلى أراض محتلة ومصيرها على «كف عفريت»؟ مثلاً، هل يمكن عضواً في البرلمان الأوروبي، مثل بول مورفي (المشارك على المركب الإيرلندي)، أن يراوده طموح إلى العمل في الأراضي المحتلة، وفي غزة تحديداً؟ بحسب كثير من المعنيين بهذه القضية، ليس الموقف الإسرائيلي سوى استخفاف بعقول الدول والناس.
لنعد قليلاً في الزمن، أسبوعاً إلى الوراء، إلى ما بعد ظهر يوم الأربعاء الماضي. قبل ساعتين من انطلاق مركب التحرير، جلس جورج كلونتساز في مقصورته يعدّ اللازم للرحلة. كان هادئاً عكس معظم من هم على متن المركب الكندي. هم شُغلوا في إعداد أنفسهم وترتيب معدّاتهم، أما هو، فما كان عليه سوى مراجعة بعض الخرائط وإعادة معاينة عدد من الأجهزة والتأكد من كون كل أزرارها تعمل. بدا التفاؤل على وجه الشاب اليوناني، و«كل شيء معدّ للوصول إلى غزة، فعلنا ما علينا والباقي على الله». وعند تكراره العبارة الأخيرة كان يشير إلى مجموعة من الصور والإشارات الدينية البيزنطية المعلّقة في المقصورة. ومع الوقت يتبيّن أنّ هدوء القطبان ليس سوى نتيجة مشاركته في معظم الحملات المماثلة لكسر الحصار على غزة، فهو «ملتزم بالنضال لوقف ما يحصل في فلسطين»، ويكرّر «الباقي على الله».
وضع جورج كلونتساز شبيه إلى حد كبير بحال معظم المشاركين على متن مركب «التحرير». يمكن ملاحظة ثنائي كندي متميّز عن غيره. روبرت لوفلاس ونيكول ماك كراس. حضر الناشطان وهما يحملان هموم هويّتهما الأصلية. روبرت من الهنود الكنديين، السكان الأصليين لكندا، الذين تهجّرهم دولتهم من أراضيهم ومناطقهم لبناء حقول تنقيب ومصانع الخشب. يرى روبرت أنّ الدولة الكندية دولة احتلال، تشبه إلى حد كبير إسرائيل، وتمارس السياسة نفسها تجاه أصحاب الأرض. معظم من كان في مدن دالامان وفتيحة وغوتسيك، موقفهم صادق تجاه غزة وأهلها. إلا أنّ منطلقاتهم تختلف: منهم من حضر للتكفير عن ذنوب حكومته، ومنهم للغوص في قضايا مشابهة لقضاياه، إلا أنّ ثمة من وُجد في المرفأ لإرضاء ذاته وعيش مغامرة جديدة تمكّنه من دخول الصالونات الاجتماعية في بلده كبطل مغامر لديه ما يتحدث عنه لأصدقائه وأولاده. وهذه إحدى المعضلات الأساسية، فكيف إذا كانت تكمن في عدد من المنظمين أنفسهم؟
ليست هذه المشكلة الوحيدة مع المنظمين الكنديين، أو حتى مع المشاركين الآخرين. ولأجل حملة مستقبلية أكثر تماسكاً لكسر حصار غزة، يمكن الاستفادة من بعض الأخطاء التي وقع فيها منظمو «موجة الحرية لغزة»، وأبرزها هي أنه، لا يكفي البعد الثقافي وحده لتنظيم حملة مماثلة أو المشاركة فيها. ذلك أن معظم هؤلاء غرباء عن منطقة الصراع ولا يدركون تفاصيله ومكامنه، ويتبنّون «ثقافة السلام» قبل الحملة وخلالها وبعدها. حتى إنّ جزءاً من الذين لم يحالفهم الحظ في ركوب المركب، لم يترددوا في التعبير عن مفاجأتهم بالوحشية الإسرائيلية في علمية الاستيلاء على المركب ومعاملة الموجودين عليه، كما يتعجّبون لخرق إسرائيل حقوق الإنسان والبروتوكولات الدولية. وما لا يمكن فهمه أيضاً، المقابلة التي أجراها الناشط الكندي، إيهاب لطيف، مع صحيفة «هآرتس» بعد ساعات من إقلاع «التحرير» باتجاه غزة.
ويمكن الاستفاضة في الحديث عن أداء التنظيم الكندي. فالمنظمون لم يطّلعوا مسبقاً على القانون البحري التركي، الذي يحدد أعداد ركاب المراكب بحسب أحجامها، وبحسب الساعات التي ستقضيها في المياه. وهي المشكلة التي واجهها مركب التحرير، واضطر إلى خفض عدد ركّابه.
واعتمد المنظمون، منذ اليوم الأول لإطلاق الاستعدادات لحملة «أمواج الحرية لغزة»، أسلوب العمل السري. وزّعوا توجيهاتهم على المشاركين وأخفوا عنهم الكثير من التفاصيل. فرّقوهم إلى مجموعات في مدن مختلفة، إلا أنّ ذلك لم يسهم في حماية سرية الحملة. فمثلاً أقام عدد من المشاركين في فندق في دالامان، الذي يبعد أمتاراً عن المركز الرئيسي للشرطة في المدينة. مثل آخر: قبل يوم من انطلاق «التحرير»، كانت المجموعة تجلس في أحد مقاهي مرفأ فتيحة، حيث حصل تعارف مع أحد العاملين في المقهى، وهو من أصول كردية. سأل الأخير عن سبب وجود المجموعة، فرُد عليه بأن الموجودين ينتظرون مركبا يقلّهم في رحلة. سأل من جديد: «تنتظرون المركب المتوجّه إلى غزة، أليس كذلك»؟
باختصار كانت الحملة مفضوحة أمنياً، لكن ما يثير الملاحظة أيضاً أداء الفريق المنظم لدى إعلان تخفيف عدد المشاركين من 36 إلى 11. عرض كثير من المشاركين صيغاً لتوسيع المشاركة، إلا أنها جميعها لاقت رفض المنظمين، وذلك بحجة أنّ «هذه الصيغ قد تمثّل خطراً على سير الحملة ومصيرها». اتّخذ منظمو الحملة الكندية قراراً حاسماً في هذا الإطار، أقفلوا النقاش ولم يستجيبوا لأي من الأفكار التي طُرحت. دفع ذلك عدداً من المقصيين عن المشاركة إلى التواصل مع منظمي الحملة الإيرلندية، واتفقوا معهم على ملاقاتهم في وسط البحر للانضمام إلى قاربهم، إلا أنّ قوارب خفر السواحل التركية حالت دون ذلك. وأثار المنظمون الكنديون الكثير من الشكوك في أوساط المشاركين المستبعدين. ولم يتردّد أي من المقصيين في الإشارة إلى تعاون قائم بين المنظمين والسلطات التركية، وإلا فكيف كانت ستُرفع لافتة «أمواج الحرية لغزة» عند مغادرة «التحرير» مرفأ فتيحة؟



ضغط على الموقوفين


يمارس الجيش الإسرائيلي الكثير من الألعاب النفسية مع الناشطين المعتقلين في سجن جيفون، القريب من مدينة الرملة في فلسطين المحتلة. يمنعهم من النوم، يوزع في المبنى ساعات حائط تدلّ إلى أرقام متباينة، يمنعهم من التواصل مع العالم الخارجي، يفصلهم عن بعضهم البعض، لا يتلو عليهم حقوقهم ولا يسمح لهم بإجراء المكالمات الهاتفية الخاصة بهم. ولامس الضغط النفسي الإسرائيلي تهديدات باعتداءات جسدية.
كل هذا لدفع الناشطين إلى توقيع نص التعهد المكتوب باللغة العبرية، الذي يؤكد فيه من يوقعه أنه كان يحاول دخول الأراضي المحتلة خلسة عن سابق تصوّر وتصميم، ويتعهّد عدم دخول أراضي فلسطين قبل مرور 10 سنوات على توقيع الأوراق. الناشطون المعتقلون حتى اليوم هم: مايك كولمان، إيهاب لطيف، دايفد هيب وحسن غاني (لا تعترف إدارة السجن بوجوده)، جون هورن، بات فيتزجيرالد، بيلي سميث، جون مالون، فيتان لاين، كريس أندروز، بول مورفي، هيو لويس، فاليم إغان، ماغز اوبراين، جيرار بارون، زو لاولر، فيليب ماك كولوه، تريفور هوغان.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المواطن العربي، مجد كيال، فصل عن المجموعتين لدى وصوله إلى أشدود دون أن يُعرف مصيره بعد.