مصر دخلت متاهة جديدة. المجلس العسكري أعلن دعوته لانتخابات مجلس الشعب في ٢٨ تشرين الثاني. وبعدها بقليل، أعلن التحالف الديموقراطي من أجل مصر، بقيادة الإخوان المسلمين، اعتزامه مقاطعة الانتخابات إذا لم تنفذ شروط، وضع في مقدمها إلغاء الانتخابات الفردية، وثانيها تفعيل قرارات العزل السياسي على رموز الحزب الوطني المنحل وكوادره. دخول المتاهة يأتي بعدما جهزت الميديا، التابعة للمجلس، الشعب على أن هذه خطة العودة إلى الاستقرار. ويبدو أنها كانت عودة إلى طريقة المطبخ السري، ومجمع الكهنة الذي يسقط القرارات من أعلى بعد جولات من مفاوضات خلف الكواليس، توزع فيها الحصص وتعقد الاتفاقات وتقطع الكعكة على مزاج صاحب القرار. قانون الانتخابات طبخ على نار عجولة، لأن الطهاة كانوا متعددي الأهداف. كيف نجري انتخابات لا يسيطر فيها تيار على البرلمان. كيف لا نجعل الإخوان يستحوذون على الغالبية التي تجعلهم قوة معنوية موازية لقوة الجيش في صناعة الجمهورية الجديدة؟ وفي الوقت نفسه، كيف يمكن الحفاظ على مساحة الإخوان في التركيبة السياسية لكي لا يتحولوا الى الجبهة المضادة؟ الطهاة أعيتهم الحيل القديمة وخرجوا بتركيبة تجمع بين القائمة النسبية المغلقة ولها ٧٠ في المئة من المقاعد، بينما الانتخابات الفردية لها ٣٠ في المئة وهو ما يعني استحالة فوز الإخوان بنسبة تمنحهم الصوت العالي في كتابة الدستور الجديد. لعبة جهنمية، أفرغت الاتفاقات القديمة بالتوافق على شكل المجلس قبل الانتخابات من فعاليتها. فالتحالف، الذي يقوده الإخوان مع حليف مدني هو الوفد، ومعهم أحزاب صغيرة أو كرتونية من تلك التي كان مبارك يضعها في فاترينته ليفخر بديموقراطية وتعددية، كان يمنّي النفس بالسيطرة المطلقة. في المقابل، تكونت «الكتلة المصرية» من أحزاب ليبرالية ويسارية، في مقدمها حزب «المصريون الأحرار» والحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي وحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، إضافةً إلى حزب التجمع، الوحيد المنتمي إلى العهد القديم. الكتلة في تركيبتها «ضد الإخوان» في المقام الأول، جمعت الأحزاب الساعية إلى دولة مدنية والمتمردة على لهاث الجماعة باتجاه انتخابات تتصور أنها «معركتها الاخيرة» في القفز إلى الحكم أو إلى منصة إدارة البلاد سياسياً. الهوية، هي لعبة الإخوان التي تظهر لحظات بعينها، لعل بينها اتساع تأثير أو علوّ صوت السلفيين، وهنا تظهر مهارات الجماعة في اختراع توليفات عجيبة مثل «دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية». التوليفة العجيبة تظهر في لحظات وتخفت عندما يبدو التحالف مع قوى مدنية ضرورياً، كان هذا هو الحل للتمايز عن فورة السلفيين، واندفاعهم إلى العمل السياسي بدون سياسة تقريباً.
التحالف لم يكن خالياً من خطط اتصلت مع رغبات المجلس العسكري في ضمان النتيجة قبل اللعب، وربما اتفقت إرادة الجماعة والمجلس في تكوين قائمة موحدة توزع المقاعد فيها على حسب ما سمّاه الإخوان وقتها «الأوزان النسبية للتيارات السياسية». التقسيم حسب الأوزان النسبية، كشف عن نية الإخوان قيادة المعارضة، وهو ما أزعج رجل الأعمال نجيب ساويرس ليخرج من الاجتماعات الأولى ويفضح المحاولات الأولية لتوزيع الكعكة قبل الطهي. الكتلة ضد التحالف أو ضد الإخوان على نحو أكثر تحديداً، وكلاهما، كما تروي الحكايات السرية، سعى إلى استكمال القوائم بمن يسمّون «الفلول»، شطار الانتخابات ومحترفيها بعيداً عن القاهرة.
الفلول أو بقايا الحزب الوطني الحاكم لها تفكير آخر، نظمت نفسها في ٥ أحزاب، أعلن منها حزب الاتحاد أو حزب حسام بدراوي، آخر أمين للحزب الوطني في عصر مبارك، وعين رئيسه سيف فهمي، أحد أفراد المجموعة المقربة من لجنة السياسات ويتردد أنه أحد الأسماء المعروفة في تجارة السلاح.
«الفلول» كانوا هدف الكتلة والتحالف، حتى أعلن قانون الانتخابات وسمح بالانتخابات الفردية التي وضعت لها شروطاً، أولها عدم عضوية المرشح في حزب قبل الانتخابات وعدم انتقاله الى حزب بعد الانتخابات وإلا سقطت عضويته. «الكتلة» رفضت القانون بدون أن تنسحب من الانتخابات، لكن «التحالف» وضع شروطاً لدخوله المعركة، في مقدمها إلغاء الانتخابات الفردية (لكي لا تكون البوابة الخلفية للفلول) وتفعيل قانون منع أعضاء الحزب الوطني من ممارسة السياسة لمدة ١٠ سنوات. قبل إعلان القانون، عاد الكلام حول «قائمة موحدة». وبينما وافق ساويرس على العودة إلى جلسات تفاوض، اعترض حزبه ومعه بقية أحزاب الكتلة، وبدت الساحة مقبلة على صراعات من النوع القديم وفق إيقاع الانتقال بين التحالف والكتلة، بما يتضمنه من ملفات طائفية (مسلمون وأقباط) وسياسية (مع المجلس وضده). وهذا ما سمح لتحالفات أصغر بالحركة لجذب عناصر خارج التصنيف الثنائي.
الآن عادت حالة الانتظار. ودخل الشعب في متاهة، ربما تنفك بعض طلاسمها في جمعة «استرداد الثورة» من الجنرالات.