كرداسة | ليس الأمر بالحجم أو النوع، لكن بعد آثار الدمار الصادمة التي عاينتها «الأخبار» في سيناء، كان لافتاً استنساخ الأساليب المتبعة من قبل القوات المشتركة بين الجيش والشرطة في «الانتقام الجماعي» من سكان منطقة بعينها دون تمييز بين مطلوبين وغير مطلوبين. صارت التهمة جغرافية، وصار ابن سيناء أو ابن كرداسة مُداناً إلى أن تثبت براءته. لقد حوصرت القرية بمدرعات الجيش، ووقف الجنود يفتشون الداخلين وسياراتهم، ومُنع إمداد القرية بأنابيب «البوتاغاز» طوال ثلاثة أيام منذ اقتحامها بهدف فضّ الاعتصام يوم الخميس 19 آب، الذي تبين أنه لم يكن موجوداً من الأساس.
بدا ظاهراً لأي زائر اختلاف الرواية الرسمية الشائعة إعلامياً عن الرواية الشعبية السائدة في كرداسة، حتى بين مؤيدي الجيش وقائده العام. شملت جولة «الأخبار» خمسة منازل تفاوت الاعتداء عليها بين إطلاق الذخيرة الثقيلة عليها، وتحطيم محتوياتها، أو إحراق الأثاث، أو إتلاف تشطيبات شقة جديدة أصرّ صاحبها على عدم تأجيل عرسه فيها، رغم ما أصابها. في أحد البيوت، يئست القوات من التفتيش ومن السعي وراء المطلوب، فاعتدت على والده (75 عاماً) بالسب والضرب المبرح، وأخرجوه عنوة، ثم أحرقوا أثاث البيت بالكامل، بحسب ما يروي الشهود لـ«الأخبار». جلس الأطفال والنسوة على عتبة المنزل يبكين على ما وقع لكبيرهم، الذي اعتقلوه في اليوم التالي أثناء شرائه الجريدة. لم تكتف الشرطة باحتجاز الرجال المسنين كرهائن للضغط على ذويهم المطلوبين، بل اعتقلت النساء والأطفال قبل أن تفرج عن النساء وتتحفظ على الأطفال للضغط على آبائهم. تواترت شهادات وروايات الأهالي عن نهب مقتنيات المنازل قبل إحراقها، سواء من المصوغات الذهبية أو النقود أو كل ما خف وزنه وعلا سعره. طاول الحريق أثاث غرف الأطفال وملابسهم وألعابهم.
وعاينت «الأخبار» الموقع الذي قُتل فيه اللواء نبيل فرج، مساعد مدير أمن الجيزة، الذي قضى أثناء اقتحام كرداسة الخميس الماضي. ذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط، الوكالة الرسمية، أن تقرير الطب الشرعي المبدئي قد أوضح أن سبب وفاته رصاصة 9 ميلليمتر أُطلقت من مكان قريب واخترقت جانبه الأيمن واستقرت في جدار الصدر. وبمشاهدة بسيطة يتضح أن أقرب مسافة يمكن أن يطلق منها النار من قبل مسلّحين بالقرية على أحد الضباط في قلب التشكيلات لا تقل عن 80 متراً، وهو ما يطرح احتمال مقتله بـ«نيران صديقة» في الاعتبار.
أما عن مذبحة قسم كرداسة التي راح ضحيتها 11 من ضباط الشرطة وجنودها يوم فض اعتصام رابعة في 14 آب المنصرم، فإن روايات الأهالي تقدّم صورة مختلفة عمّا تناقلتها وسائل الإعلام عن أنها مذبحها نفذها أنصار «الإخوان المسلمين» في ضباط القسم. يقول الشهود إن قوة قسم الشرطة كانت قد قتلت منذ يوم 3 تموز الماضي حتى صباح يوم فضّ الاعتصام 12 شاباً متظاهراً من كرداسة والقرى المحيطة بها، أحدهم من قرية «أبو رواش» المعروفة بشدّة بأس قاطنيها من القبائل العربية. وحين تجمهر من لم ينضم إلى مسيرة «الميكروباصات» لدعم اعتصام «رابعة العدوية» أثناء الفضّ أمام القسم، توسط أحد وجهاء كرداسة للتفاوض مع القائد الموجود على الانسحاب السلمي من القسم الذي أعادت بناءه اللجنة الشعبية بالجهود الذاتية بعد إحراقه في كانون الثاني 2011. كان رد القائد عنيفاً ومهيناً، بحسب الروايات، وبادر بإطلاق وابل من الرصاص في الهواء، فانسحبت الجموع بعد سقوط خمسة منها.
يرجّح الأهالي أن السيارات التي حملت غرباء ملثمين مسلّحين بقذائف الـ«آر بي جي» قد أتت من إحدى القرى، التي أراد أهلها الثأر من قاتلي أحدهم. يروي الأهالي أن السيارات دخلت القرية بالتزامن مع تراقص الجنود بالسلاح احتفالاً بفض التظاهر بإطلاق النار العشوائي واستخدام قنائب الغاز غير المرئي. لم يلبث المشهد إلا أن انقلب بعد قصف القسم بأربع قذائف وفتح النيران عليه، فهرب عشرات الجنود وتعاطف معهم أهل القرية الذين لم يستطيعوا تخليص الضباط من أيدي المعتدين. كشف أحدهم لثامه مخاطباً نائب مأمور القسم سائلاً إياه «فاكرني؟»، ثم أطلق النار عليه وعلى ضباط القسم في الشارع.
يبدو التخبط والعشوائية في الاعتقال واضحين في مطاردة مطلوبين ماتوا قبل الأحداث بشهور، كذلك محاولة اعتقال مدير المدرسة التي استغلها مهاجمو القسم في الهجوم، فلما وجدوه قد توفي (وفاة طبيعية) اعتقلوا ابنه، بل حتى مؤيدو وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي والمتظاهرون لدعم الجيش، وهم قلة قليلة في كرداسة، اعتُقل اثنان منهم لتصادف وجودهما بالقرب من إحدى عمليات الدهم. أجواء مشوبة بالحذر البالغ قضتها «الأخبار» في مشاهد من كرداسة غير مرحب بنقلها إعلامياً، حيث عمّ الرعب المصادر والأدلة الميدانيين الذين قادوا الجولة، مع تأكيد عدم ذكر أسمائهم أو أسماء أي من أبطال الحوادث والوقائع خشية بطش الشرطة والجيش!