«كان جايي ع بالي إني روح على شي مخيم وقول للفسلطينيين هونيك إني صرت متلهن». هذه الجملة الفجّة ذكرتها زوجة أسعد الشفتري، المسؤول الأمني والاستخباري السابق في القوات اللبنانية، وصاحب الاعتذار الوحيد عن مشاركته في الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك في فيلم «ليالٍ بلا نوم» للمخرجة اللبنانية إيليان الراهب، الذي عُرض في ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية أخيراً.
بتلك الجملة العنصرية الفجاجة، وصفت زوجة الشفتري شعورها بأنها «أصبحت منبوذة» آخر أيام الحرب، وأن أحداً لم يعد يرغب بوجودها في بلدها.
تبتسم السيدة ابتسامة صفراء. لا تشعر بأي خطأ أخلاقي أو ندم لما قالته في هذا الفيلم الذي تحدث بالأساس عن رحلة البحث عن أحد مفقودي الحرب الأهلية، ماهر قصير من الحزب الشيوعي اللبناني. أبطال الفيلم كانوا، إلى زوجة الشفتري، مريم السعيدي والدة ماهر، والمقاتل السابق النادم التائب أسعد شفتري.
وأهمية الفيلم أنه وضع النقاط على الحروف، ضارباً بحجج الدولة اللبنانية عُرض الحائط ليقول: «بلى، فينا نعرف مصيرهم»، أي المفقودين والمخطوفين في الحرب الأخيرة.
لكن من سيقول لعلي مرعي الذياب، ابن خالي الفلسطيني الذي قرر الفرار من لبنان ففُقد إبّان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، أن لا أحد يسأل عنه الآن؟ وأن ملف المفقودين الفلسطينيين منسيٌّ في أدراج مكاتب المنظمات؟ وأنه حتى الصورة الوحيدة التي كانت موجودة على حائط الصالون في بيت خالي في مخيم القاسمية لم تعد موجودة اليوم ربما يأسا؟
يا علي، أنت ضحية فعل التناسي، ولكنك لا تنسى. فبالرغم من محاولات دفن الماضي بالحاضر، كانت له إطلالة على مشاهد الفيلم الأخير بشكل سرّي لا يعرفه أحدٌ سواي.
أنا لا أعرف علي، فهو فُقد قبل ولادتي، ولكنني أعرف صورته التي رحلت عندما قرر خالي ترميم بيتهم، ومعه «ترميم» الذاكرة.
في نيسان 2008، في ذكرى مرور 33 سنة على الحرب الأهلية، عيد الفصح المجيد، مناسبة مرور 22 سنة على اعتلاء الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير السُّدة البطريركية. مناسبات كانت كافية ليُقدم بها الممثل السابق لمنظمة التحرير في لبنان شريف مشعل – المعروف باسمه الحركي عباس زكي – وثيقة «كلمة الشرف وعهد الوفاء إلى مسيحيي لبنان» كمستند يغفر لليمين المسيحي جرائمه التي ارتكبها بحق الفلسطينيين في لبنان أثناء الحرب الأهلية، وكاعتذار رسمي (لا يمثل أكثرية الفلسطينيين) من شأنه إغلاق ملف المفقودين الفلسطينيين في لبنان نهائياً.
مسلسل ذرف الدموع أمام الكاميرات، القبل والأحضان... استهلاك الشعور بالندم، الكل يعتذر من الكل، يُسامح وينسى، مسلسل الوقوف أمام المئات في مؤتمر صحافي لقول: «أنا قتلت... إذاً أنا آسف!» لا يكاد ينتهي. لبنانيون يعتذرون من لبنانيين. يتناسى هؤلاء آلالاف العوائل التي لا تزال تنتظر معرفة مصير أبنائها.
سنوات تمرّ، تقف النسوة أمام عدسات الكاميرا، يروين قصصهن، لكن قلب الأم لا ينسى. كتلك الأم اللبنانية المتزوجة فلسطينياً، والمقيمة في مبنى مستشفى غزة في مخيم صبرا: عدد المفقودين 3 أبناء وبنت. لا تزال تبكيهم وكأنها فقدتهم البارحة.
تحمل صورة أصغرهم سناً أمام مخرج الفيلم لتقنعه بأنه «هذا بالذات لم يُشارك في الحرب، بل خرج ليلعب في الشارع القريب، خرج ولم يعد». تُصر على أن لا أحد يسأل عن أبنائها لأنهم
فلسطينيون.
يسألها المخرج عمّا إذا كانت نادمة على زواجها بفلسطيني، تضحك، لمرة وحيدة، لتؤكد أنها تزوجته عن حُب، وأن الفلسطيني هو عشق الجنوبية
الأول.
يسألها المخرج: «بتحسي بعدهم عايشين؟»، تردّ بثقة: «إيه»، فيقاطعها أذان العصر. تلتمع عيناها فجأة للصدفة، تكمل حديثها بالقول: «شايف. على كلمة الله أكبر»، خاتمة تقشعرّ لها الأبدان.
يا علي، قد نكون قد سامحنا فعلاً لنعيش، دون حقدٍ أو حاجةٍ إلى الانتقام؛ فالانتقام لا ينفع، فسامحنا أنت أيضاً. نحن لا ننسى، وإن تناسى بعضنا. نصبر كثيراً على الوجع، ولكننا اعتدنا أن يحفّ السكين بالجرح ونصبر أكثر. قد لا تعود لتكون بيننا، لكننا سنعرف مصيرك، عاجلاً أو آجلاً، ففي النهاية يا علي، لا يصح إلا الصحيح.