على بلاط المساجد يسيل دم الفقراء... تخفت أجراس الكنائس ويتلاشى صوتها خجلاً عليهم وهم يعبرون بين سطور التاريخ.
بخيبة جموع كومبارس بائسين أجبروا على الانسحاب من فيلم أبطاله وحوش وحيتان. لا أحد يذكرهم، لا أحد يلمح الوجع في وجوه ذويهم وأمهاتهم... لا أحد يكتوي بملوحة الدموع الهاربة من عيون أطفالهم.
يغتالنا الموت المعفّر برائحة الخوف والقلق... نموت خائفين من الموت، ويهيم بنا الشوق لعناق أمهات 50 فقيراً ماتوا في جامع الإيمان بحثاً عن العلم، و80 جريحاً بعضهم يلمح شبح الموت يقترب ويبتعد مثل كابوس مخيف.
ولم تنتبه لأسماء كل هؤلاء نشرات الأخبار... ولم تنعَهم المحطات... ولا الموقع الأزرق.... كان اسم العلامة أكبر... كم موجع يا سوريا أن تموتي غرقاً في بحر من دماء الدراويش... كم موجع أن تعيد السماء انتقامها منا كل يوم مرات ومرات... ونحن نتشبث بحياة ترسم خطاها الدماء... وتضبط إيقاعها صرخة أم ثكلى... فزع طفلة تجابه سكيناً عمياء... رعشة شاب يرحل وحيداً في براد الموتى... أو قافلة هوجاء تسحل عجلاتها براءة طفل يهدد الأقليات بالذبح...
في مدينة الياسمين تغير وجه الزمن، ومشى سكان العاصمة القديمة في تشييع كل أحلامهم خلف مواكب الشهداء(؟!)
هناك كانت تسري الحكايات عن رجال تشبه أخلاقهم الملائكة، ماتوا وهم يسجدون لله فظل عبقهم يفوح في كل الأماكن التي عبروا منها... «المسكية» هو اسم زقاق صغير في الشام القديمة مرّ منه رجل مؤمن ففاحت رائحة المسك، ولا تزال حتى اليوم تفوح وتعبق في أرجاء الحارة الصغيرة حتى سميت المسكية! تلك روايتهم الصغيرة... حكايات جدات يستلهمن روحها من وعد أكيد بجنة عرضها السماوات والأرض تنتظرهم خلف سياج رحلة الحياة الخاطفة… وخاصة إذا قرر ملاك الموت زيارتهم وهم يتقربون من الخالق، يتملكهم خشوع ووجل بين يديه...
إذاً، لا ضير من مخاطرة بسيطة في سبيل طلب العلم الشرعي، أو صلاة في مسجد مبارك خلف إمام عادل… لكن القدر دائماً له حكمة ممزوجة بالقهر.
لذا اختار عودة ربيع مكفهر يحصد الأرواح دون هوادة.
ربيع له لون داكن مثل بذلة محارب منهك. ربيع تفوح منه رائحة الموت في كل مكان.
ربيع يصنع من الجثث فحماً، أو إرباً مرمية لكلاب الطرقات التي لا تفلت من جنون الحرب العمياء، وملاك الموت في سوريا لن يأتي ليسأل من سيخطف أرواحهم ما هو أكثر ما يحبونه في هذا العالم؟ ليجلبه لهم قبل أن يهموا برحيلهم الأخير، كما كان يفعل (سيث) النجم العالمي نيكولاس كيدج في فيلمه الشهير (City of Angels) (مدينة الملائكة). هنا الواقع ليس فيلماً رومانسياً، ولا يمكن حتى صناع أفلام الآكشن أن يتخليوا نصف العنف الضارب في ثناياه. ملاك الموت هنا ذئب يضرب يمنة وشمالاً... وحش يفترس ما تيسر له من مساكين تطمس الجريمة معالم وجوههم السمحة، ويتوه ذووهم في أقذر رحلة للبحث عمّا بقي من فتات أجسادهم...
أي عيد أم ذاك الذي سيزور أمهات الشهداء في العام المقبل، والشام تنزف جرحاً عميقاً وسمة العيد صرخات الثكالى... وهن يحضرن طيف أبنائهن ويرددن بصوت يزلزل بؤس هذا العالم «روح الله يرضى عليك يا بني». في العام المقبل ستصنع أمهات الشهداء كعكاً بحجم هذا الوجع، وسيذكرن كيف ودعن أبناءهن عندما كانوا في طريقهم للمسجد (بيت الله). هو المكان الأكثر أماناً وهدوءاً، لكن هناك من أفتى بجواز قتل العلماء وطلابهم إن دافعوا عن «الطاغية».
خمسون شهيداً قبلهم عشرات الآلاف وقد شيعتهم أمس أصوات القصف، ودوي الانفجارات التي هزت الشام، فتضاعفت الأرقام وزادت الأخبار العاجلة خبراً.
والخلاصة تعالوا نقرأ كل ما نحفظ من صلوات ودعوات وقصار السور على روحك يا بلاد.