الخليل | في السادس عشر من الشهر الماضي قتل الشاب بلال الرجبي برصاص قوات الأمن الفلسطينية إثر اشتباكات في المنطقة الجنوبية من مدينة الخليل (جنوبي الضفة)، وهي منطقة تخضع تماماً لسيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي.
قالت السلطة آنذاك إن الشاب من «المطلوبين للعدالة»، وكان ضمن مجموعة من الخارجين على القانون ونصبوا كميناً لقوات الأمن في تلك الليلة. حتى اللحظة (كتابة النص)، لم يخرج أي تصريح من عائلة الرجبي التي هي من أكبر العائلات حجماً ونفوذاً في المدينة، إضافة إلى أن القضية لم تحل عشائرياً، أو تدفع دية لمقتل الشاب كما هو متعارف عليه في العرف العشائري.
نتيجة ذلك الحادث، جرت تحركات مكوكية من وجهاء عشائر الخليل وممثلي الفعاليات الشعبية والاقتصادية، وكلها «حجّت» إلى مقر محافظ الخليل في خطوة أوليّة لاحتواء الحدث حتى لا ينفجر غضب المنطقة الجنوبية في وجه السلطة أولاً، وثانياً الاحتلال، والخيار الأخير وارد ومحتمل، وتخشاه السلطة.
تشابك المصالح التجارية والصناعية يقضي بوجود منطقة «هادئة» أمنيا

بالتوازي مع تلك التحركات، أعلن تنفيذ حملة أمنيّة موسعة في المنطقة الجنوبية تستهدف الخارجين على القانون، كما تقول السلطة، وما لبثت أن وصلت الوحدة 101 التي عملت سابقاً في جنين لضبط المدينة عقب اغتيال الاحتلال الشهيد إسلام الطوباسي نهاية العام الماضي، وها هي تباشر الحملة منذ أسبوع، ومن المتوقع أن تكون الأكبر منذ الحملة الأمنيّة التي نفذت عشية عملية بني نعيم عام 2010 (قتل فيها أربعة إسرائيليين).
لفهم المغزى من الحملات الأمنية التي تنفذها السلطة، ينبغي معرفة طبيعة المنطقة الجنوبية في الخليل لكونها تمثل خط مواجهة مباشر مع الاحتلال، وهناك أيضا تتشابك المصالح الاقتصادية التي يعنى وجهاء ورجال أعمال المدينة بالحفاظ عليها، ويكون ذلك بفرض منظومة أمنيّة واسعة من شأنها أن تضبط أي فعل «غير قانوني» يهدد بيئة المال والأعمال النامية في المدينة، سواء أكان هذا الفعل ضد الاحتلال، أم جنائياً.

مسرح عمليات ضد الاحتلال

المنطقة الجنوبية في الخليل تعرف منذ عام 1997 بتصنيف H2 بناء على تقسيم المدينة إلى قسمين H1 وH2، وذلك في أعقاب توقيع «بروتوكول الخليل» بين منظمة التحرير والاحتلال. وفي منطقة H2 يقيم نحو 30 ألف فلسطيني مقابل 500 مستوطن إسرائيلي يعيشون في أربع مستوطنات، ومنذ ذلك الحين ظلت المنطقة تحت السيطرة الكاملة للجيش الإسرائيلي، ولا يمكن لقوات الأمن الفلسطينية دخولها إلا بتنسيق أمني.
مع وجود المستوطنين، ظلت المنطقة خط مواجهة مباشر مع الاحتلال، وتاريخها حافل بالعمليات التي نُفّذت ضد الاحتلال منذ الثمانينيات مروراً بعملية حارة النصارى (زقاق الموت في تشرين الثاني 2002)، وصولاً إلى عملية قنص الجندي الإسرائيلي، جال كوبي، قرب الحرم الإبراهيمي في تشرين الأول 2013، إضافة إلى نقطة المواجهات المستمرة في محيط مدرسة طارق بن زياد القريبة من الحرم.
المنطقة نفسها شهدت عام 2010 عملية اغتيال نشأت الكرمي ومأمون النتشة، منفذي عملية بني نعيم (سيل النار)، كما يذكر أن أهالي جبل جوهر سحبوا جثماني الشهيدين ونقلوهما إلى مكان مجهول خوفاً من اختطاف الاحتلال الجثتين.
من ناحية أخرى، فإن المنطقة الجنوبية للخليل تمثل حاضنة مهمة وضرورية للمنطقة الصناعية التي تعد أكبر تجمع صناعي في المحافظة، وهي ذات علاقة بصناعة الحجر والرخام، وتضم أكثر من 270 مصنعاً لمنتجات متعددة. هذا معناه أن أي حدث أمني لا يؤدي إلى إغلاق حارات وأحياء المنطقة الجنوبية فحسب، بل أيضاً كل مصانع وورش المنطقة الصناعية، الأمر الذي يؤدي تاليا إلى خسائر مادية فادحة على أصحاب المنشآت والعاملين فيها، وهو ما يدفعهم إلى السعي الدائم نحو طلب توفير حالة مستدامة من الأمن.

فقه الأولويات فلسطينياً وإسرائيلياً!

انطلاقاً من التقديم السابق، صارت المنطقة الجنوبية بالنسبة إلى العقلية الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية منطقة أزمات وتوتر ينبغي ضبطها ومراقبتها حتى لا تتمدد أعمال المواجهة إلى باقي الخليل، كما صار ساكنو تلك الأحياء كأنهم عشرات الآلاف ممن يعيشون في «بؤرة شغب». مقابل هذا التوصيف، يغيب عن خطاب المحافظة والبلدية والغرفة التجارية الوضع المعيشي للسكان هناك، والأسباب التي تدفع الشبان، وفق زعم السلطة، إلى سرقة السيارات والاتجار بالمخدرات.
رام الله تدافع عن ذلك وتقول إن التنمية في المدينة تستهدف البنية التحتية (إعادة تأهيل الشوارع وشبكة المواصلات)، لكن هذا يجري على حساب افتتاح مدراس وإيجاد فرص عمل للشباب وإصلاح النظام الاقتصادي للخليل، الذي صار يتجه نحو تركيز المال والأعمال في يد مجموعة من المتنفذين برزت بوضوح بعد الانتفاضة الثانية، وخاصة بعدما أغلقت قوات الاحتلال مركز المدينة التجاري، الذي كان أكثر من 70% منه يقع في المنطقة الجنوبية. نتيجة الإغلاق، زحف النشاط الاقتصادي نحو الجزء الشمالي من الخليل، وهو ما ساهم في تعزيز فكرة تقسيم المدينة طبقياً إلى منطقتين، جنوبية تفتقر إلى تنمية حقيقية وتزداد فيها حالات الفقر والتسرب من المدراس والزواج المبكر والبطالة، وأخرى شمالية فيها كل الأنشطة الاقتصادية والتنموية.
وبينما تزداد أموال رجال الأعمال، فإن هناك ما يقارب من 26.1% من سكان الخليل متعطلون من العمل، إلى حد أن المدينة سجلت، في الربع الأول من العام الجاري، أعلى معدلات البطالة في الضفة المحتلة، ويبقى المبرر أن الأولوية للوضع الأمني على حساب العيش.

وجهاء العشائر: الوجه الآخر للسلطة

من هنا، يصير لزاماً ضبط الوضع في المنطقة الجنوبية، فمن ناحية يجب إيقاف المواجهات في محيط مدرسة طارق بن زياد، وأيضاً إيقاف سرقة السيارات، والمهمة الأخيرة لو قرر الاحتلال التكفل بها فستؤدي إلى إشعال المنطقة، وربما كامل المدينة، وهو ما حدث سابقاً، لذلك يجب الاستعانة بعناصر مساندة ومنحها صلاحية الدخول، وليس أفضل من قوات الأمن الفلسطينية التي أعطيت الإذن عبر التنسيق الأمني مع الاحتلال.
برغم ذلك، ليس موضوعياً غض النظر عن وجهاء الخليل، الذين أصبحوا منذ اتفاقية أوسلو يؤدون دوراً مهماً في دعم خطاب السلطة وعملياتها الأمنيّة في المدينة، بل صاروا يعتمدون خطاباً يؤكد ضرورة «توفير ظروف معيشية مقبولة للسكان الفلسطينيين» حتى لو كان ذلك تحت الاحتلال!
منذ حادثة مقتل الرجبي حتى الحملة الجارية، خرج الوجهاء ببيان يوضح موقفهم بالقول: «نؤيد وندعم كل خطط إخوتنا في الأجهزة الأمنيّة في الحملة الأمنيّة الكاملة حتى تتحقق جميع أهدافها ضمن الخطط والآليات التي يراها القائمون عليها، وذلك من أجل حفظ الأمن وتثبيت أسس السلم الأمني والأهلي»، ويضيف البيان: «يؤكد جميع الموقعين عدم العمل على حماية الخارجين على القانون، واستنكار الحملات اللاعقلانية الهدامة والسلبية الموجهة ضد السلطة، كما نثمن تحركات الأجهزة الأمنية في باب الزاوية ومنع العابثين بأمن المنطقة، الذين قد تؤدي سلوكياتهم، عن غير قصد، إلى خدمة أهداف الاحتلال».
تبقى الإشارة إلى الجزء الأخير من بيان وجهاء الخليل، والخاص بمنطقة باب الزاوية، وللتوضيح فإن تلك المنطقة هي نفسها التي تشهد تظاهرات كبيرة ضد الاحتلال، وبذلك يصير دعم خطوات السلطة فيها بعبارة واضحة هو مساندة القمع الذي تمارسه قوات الأمن الفلسطينية اتجاه المتظاهرين، كما تشهد باب الزاوية منذ نحو عامين «إعادة تأهيل اقتصادية»، لذلك يجب تجنب تتضرر المصالح الاقتصادية من استمرار التظاهرات ضد الاحتلال.
ولا يخفى أن تجار تلك المنطقة عبروا للارتباط الفلسطيني، أكثر من مرة، عن تضرر مصالحهم جراء تلك المواجهات، ونقلوا عبر الغرفة التجارية ضرورة إيجاد حل جذري يضمن الأمن في باب الزاوية، وهو ما يؤكده البيان الذي وصف الشباب ممن يواجهون الاحتلال «بالعابثين بأمن المنطقة»، وهو نعت تستعمله السلطة نفسها في التعبير عن غضبها من أي أعمال لا تندرج وفق فهمها الخاص بشأن «المقاومة السلمية».




قصة السيارات المسروقة

تكاد تكون قصة السيارات المسروقة، التي هي أحد أسباب السلطة الفلسطينية المعلنة لحملتها في المنطقة الجنوبية في الخليل، سيفا ذا حدين، فهي من ناحية فقراء تلك المنطقة مصدر رزق. تُسرق بعض السيارات وتباع على شكل قطع غيار، أو يقايض أصحابها على مبالغ معينة من أجل إرجاعها. من ناحية أخرى، فإن تلك السيارات جرى استعمالها خلال الانتفاضة لتوصيل الاستشهاديين إلى الحواجز الإسرائيلية والمرور عنها، وكذلك جرت العملية الأخيرة في الخليل التي أسر فيها ثلاثة مستوطنين عبر سيارة مسروقة. أما الاحتلال، فعمل على استغلال قضية السيارات المسرقة والدراجات النارية من أجل تهريبها إلى مدن الضفة عبر شبكة عملائه، وعبرها يستطيع التجسس على المقاومين ممن يرغبون في شرائها على اعتبار أنها غير مسجلة ولا يمكن مراقبتها أو متابعتها.

(الأخبار)