غزة | في ساعات الليل الحالك، بدأ جيش الاحتلال حملة قصف استهدفت الأحياء الشرقية في مدينة خانيونس، قبل أن يلقي منشورات ويبث رسائل مسجّلة على هواتف الأهالي، يطالبهم فيها بإخلاء أحياء عبسان الكبيرة والقرارة وبني سهيلا وعبسان الصغيرة و«مستشفى» الأوروبي، ومساحات واسعة كانت شهدت أخيراً شيئاً من الاستقرار، وازدحمت بمئات الآلاف من الأهالي الذين نزحوا من مدينة رفح. وتحت دوي القصف المدفعي، خرج الآلاف من الأسر مشياً على الأقدام، في الظلام، إلى وسط مدينة خانيونس، حيث قضى الرجال والنساء والأطفال، وحتى المصابون الذين أُخرجوا على الأسرّة فوق الشوارع المجرفة، ليلتهم في العراء، معتقدين أن عملية برية واسعة ستستهدف تلك الأحياء، على غرار التي تجري في الشجاعية ورفح. غير أن ما حدث، هو اكتفاء العدو بشن عدد من الغارات التي طاولت بعض الأهداف المدنية هناك، بزعم ورود تقارير بأن المناطق المذكورة استُخدمت لإطلاق رشقات صاروخية.ومع ساعات الصباح، أعلن جيش العدو أنه أنهى نشاطه في المناطق الذي طالب أهاليها بإخلائها، وادّعى أنه كان حريصاً على سلامة المدنيين، وهو ما دفعه إلى المطالبة بالإخلاء. لكن ما حدث هو سيناريو مكرر عما حصل في مناطق أخرى في شمال القطاع، حيث يطالب الجيش بإخلاء مناطق واسعة، مدّعياً أنها ستصبح مساحة قتال خطيرة، ويحظر على أي مدني التواجد فيها، ثم يشن بضع غارات، وينتهي الأمر. ويهدف جيش الاحتلال، من استخدامه هذا الأسلوب، إلى رفع مستوى الترهيب النفسي والضغط على الحاضنة الشعبية، ومن ثم تعميق حالة النقمة والضجر، في محاولة لصناعة موجة غضب عكسية، تساهم في الضغط على المقاومة في الميدان والسياسة، وتطالبها بتقديم المزيد من التنازلات للوصول إلى هدنة بأي ثمن كان.
أما في شمال القطاع، فيواصل جيش العدو إنهاك الحاضنة الشعبية للمقاومة من خلال حرب التجويع المستمرة، حيث يمنع منذ ثلاثة أشهر دخول أي كميات من البضائع التجارية، من مثل الخضر والفواكه وكل أنواع اللحوم، فيما يقتصر ما يدخل هذه المناطق على الطحين، وكميات محدودة من المساعدات التي تحوي بعض أنواع المعلبات الرديئة. وفي ظل ذلك، يعاني الأهالي في الشمال من سوء التغذية، ومن عودة المجاعة على نسق جديد، حيث يتوفر الطحين الأبيض، في حين ينعدم وجود كل ما يمكن أن يؤكل. ويقول أبو محمد حسين إن «الجميع يعاني من سوء التغذية. لم يدخل أمعاءنا منذ أشهر أي نوع من الخضر والفواكه»، لافتاً، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «كل من تراه في شمال القطاع فقد 30 كيلوغراماً من وزنه على الأقل، أما الأطفال، فلا يتوفر لهم أي نوع من الحليب، حيث توقفت الطائرات العربية والأوروبية عن إلقاء المساعدات التي تحوي الحليب».
على أن الأكثر إرباكاً للشارع، هو انهيار المنظومة الصحية منذ أشهر، والتي ينعدم معها الأمان الصحي؛ إذ يفتقر عشرات الآلاف من الأطفال إلى التطعيمات ضد الأمراض المعدية، ولا يجد آلاف الجرحى العناية الصحية التي يستحقونها. أما المرضى الذين هم بحاجة إلى إجراء عمليات جراحية، فلا يلفون أي جهة حكومية أو خاصة تعتني بهم. ومن شأن هذا المستوى من الضغط، سواء بالتهديد الأمني أو الغذائي أو الصحي، أن يسهم بلا شك في زيادة قسوة واقع النزوح على الحاضنة في شمال القطاع وجنوبه، لكنه لم يحقق، حتى اللحظة، أهدافاً من مثل إشاعة الفوضى، أو الحرب الأهلية التي تنطلق شرارتها من تحميل المقاومة مسؤولية كل تلك المعاناة. ويمكن القول، هنا، إن ثمة مسؤولية وطنية جمعية، لا يرغب المنخرطون فيها في تصنيفهم في مصاف الطابور الخامس، حتى وإن أكلوا الصبر بشوكه.