رأيتُ في أبهاء فندق الأردن ـــ أنتركونتيننتال، عراقيين متجهمين ينتشرون في الصالونات والردهات، معظمهم يرتدي اللباس العربي التقليدي، بالكوفيات والوجوه القلقة، وسط الهمسات والصمت؛ كان هؤلاء يشاركون في ما سُمّي «مؤتمر دعم الثورة وإنقاذ العراق»، المنعقد في العاصمة الأردنية، الثلاثاء والأربعاء 15 و16 تموز 2014.
تعليمات الديوان الملكي واضحة بعدم الاختلاط والحديث مع الأردنيين، المواطنين والصحافيين، أو الباحثين عن رائحة العراق مثلي؛ أحقاً يريد رجال العشائر العربية السنيّة، الانفصال عن أنفسهم في إقليم بائس يمزّق العراق العربي، ويحول هذا البلد العظيم، إلى «سنستان» و«شيعستان»؟
ما وراء التجهم والقلق والصمت، ربما كان ذلك الشعور العميق بالخوف من الخطوة التالية التي تحرم العراقيين من تراث الاعتزاز والأمل بعودة البلد إلى قوته وازدهاره، أو الشعور المستمر بالإهانة في القلوب العراقية الفخورة لبلد أصبح ساحة للتدخل الدولي والإقليمي، الفظّ والمؤلم؟
أقرأ الوجوه، أقرأ الذعر، تألمت وأنا أجول فلا أجد عينين تنفتحان لي، لم يكن بوسعي سوى الحديث مع مرافقَين أردنيين؛ سألتهما: «هل داعش هنا؟ هل يمكنني أن أرى أحداً من داعش؟». ضحكا: لا لا لا! بالطبع، كنت أعرف الإجابة؛ بالأساس، ما يريده المسؤولون الأردنيون والأطراف العراقية المشاركة في المؤتمر، هو تظهير المكوّن السني العراقي إزاء داعش، إنما من دون اتخاذ موقف منها؛ فالعراقيون المشاركون يحسبون حسابها، وهناك إجماع على النظر إليها كـ«قوة صدم وكاسحة ألغام» ضد «جيش المالكي». سألت ـــ استفزازاً ـــ هل هناك أحد من شمّر الطوقة؟ أعني شمر الشيعة؟
ـ لا فقط شمّر السنّة!
ليس العراق، وحده، هو الذي ينقسم، بل قبائله التعددية الانتماء الطائفي؛ فلكم بدت لي شمّر المتحدة، بسنتها وشيعتها، ضمانة عراقية!
عمّان تريد من المؤتمر، ضمان علاقات طيبة مع العشائر والكيان السني، المحاذي للأراضي الأردنية، وفي المدى القصير تريد، بإلحاح، قطع الطريق على ترئيس أحمد الجلبي، العدو القديم اللدود للأردن، والمطلوب في المملكة على خلفية انهيار بنك البتراء الأردني في نهاية الثمانينيات.
الحاضرون «هيئة العلماء المسلمين» التي تحظى بوضع خاص؛ كنتُ صديقاً للهيئة حين كانت تسعى للحفاظ على خط وحدوي في المقاومة ضد الأميركيين، وتحاول النأي بنفسها عن التخندق الطائفي؛ كذلك، هناك البعثيون والنقشبنديون وشيوخ العشائر وضباط الجيش العراقي السابق والفصائل الإسلامية، بما فيها «الجيش الإسلامي» المرتبط بالأمن السعودي، ويقوده رجال «القاعدة»؛ ذلك «الحليف» الذي بات يُعَدّ «معتدلاً»، وتسعى عمان إلى استعمال قيادات قاعدية تم الإفراج عنها، في السجال ضد الدواعش.
أصاب حدسي؛ هؤلاء الرجال الذين يملأ العراق وجدانهم، لم يخضعوا للسجالات والمشاريع حول تقسيم العراق أو فدرلة العراق العربي. أكّد المؤتمر على وحدة البلد ورفض الإقليم السني. وهذا هو الجوهري الذي يجعل العُقُل لا تستحي من الرؤوس التي تحملها.
بعد ذلك، سوف نحصل على خلطة من المواقف الصحيحة والملتبسة وغير المسؤولة. حسناً! المطلب الخاص بإلغاء قوانين الاحتلال، وعلى رأسها قانون اجتثاث البعث وما تلاه في الخط نفسه، هو مطلب صحيح وأساسي ولا بد من تلبيته، لكن لا يمكن الرد على قانون الاجتثاث بروحية الاجتثاث؛ يكمن الحل بالقبول المتبادل والتوصل إلى صيغة عربية عراقية للدولة الوطنية الجديدة.
المشكلة أن أهل المؤتمر أنفسهم اجتثوا بعضهم بعضاً؛ فبسبب الإصرار على استبعاد المتعاونين السابقين مع الصحوات، والمنخرطين في «العملية السياسية الطائفية» وآخرين، انخفض عدد المشاركين من حوالى 350 مشاركاً إلى حوالى 150؛ لقد فشل المؤتمر في هدفه الرئيسي المتمثل في إيجاد صيغة لتمثيل الإجماع السنّي العراقي.
ركّز المؤتمر على «مخاطر التدخل الإيراني». لكن، ماذا عن التدخلات الأميركية والسعودية والإماراتية والأردنية، الخ؟ ألا تشكّل، بدورها، «مخاطر» وإهانات للعراقيين؟ إلام ستظلون تتقاتلون في إسار الماضي، وتحوّلون بلدكم العظيم من قوة عربية إقليمية كبرى إلى ساحة للتدخلات؟
رفض المؤتمر «العملية السياسية الطائفية»، وطالب بعدم التجديد لنوري المالكي! حسناً، ولكن ترشيح سواه أين يحدث؟ أليس في صلب تلك العملية السياسية الطائفية بالذات؟ ألا تكرّرون، في هذا الموقف بالذات، تصريحات رفسنجاني الصلفة ضد المالكي «الذي لا يريده شعبه»! إنما مع ديمومة العملية السياسية التي قامت بـ«التفاهم الأميركي ــ الإيراني»؟
ما حاول أن يفعله المالكي، بالكثير من الأخطاء والكثير من الحذر، هو خرق ذلك «التفاهم» بالذات، والتوصل، بوسائل براغماتية، إلى استقلالية القرار العراقي؛ أي رئيس وزراء عراقي يأتي الآن في إطار العملية السياسية الطائفية، وفي ظل السيطرة الداعشية على ثلث العراق، خياراً أميركياً سعودياً توافق عليه طهران. هذه خطوة إلى الوراء.
المالكي ـــ الذي تقول التسريبات إنه أصغى للنصائح الإيرانية وضغوط المرجعية والقوى الشيعية الأخرى، بالتنازل عن حقه الدستوري في تأليف الحكومة العراقية ـــ اشترط، قبل ذلك، «تحقيق إنجازات أمنية وعسكرية»، أي تعديل ميزان القوى ضد التحالف الأميركي ـــ السعودي؛ عندها ستتلاشى تلك النصائح المهزومة.
من الغريب أن أياً من المشاركين في مؤتمر عمان، لم يلاحظ ذلك الإجماع الإقليمي والدولي على حق الآخرين في تسمية رئيس وزراء العراق! هذه، وحدها، ينبغي أن تؤدي الى إعادة ترتيب البيت العراقي.
لا يزال المالكي مطالباً بالجرأة على الاستجابة للمطالب الموضوعية التي تحتاج إليها التسوية الوطنية العراقية، وتؤدي، بمجملها، إلى طيّ صفحة الاحتلال وقوانينه ودستوره ونفوذه؛ هل هو مؤهل؟ حتى الآن، يخوض المالكي، المعركة ضد الإرهاب من موقع التحشيد الشيعي؛ وبالمقابل، يسمي مؤتمر عمان السنّي، الإرهابَ «ثورةً» ويطالب بدعمها عربياً ودولياً؛ هاتان الجبهتان مآلهما التقسيم؛ عندها سيكون العراق عبارة عن ثلاث محميات، إيرانية في شيعستان، وسعودية في سنستان، وتركية ـــ إسرائيلية في كردستان. ويسعى المالكي، على طريقته العرجاء، إلى مقاومة هذا المصير: إصراره على التصدي للإرهاب، ورفضه الصريح القاطع لانفصال الكرد، يصبّان في ما يريده مؤتمر عمان من «وحدة العراق»؛ لكن إلحاح المؤتمر على استبعاد الشيعة من صفوفه، وإصراره على دعم «الثورة»، لن ينقذ العراق، بل ينتقل بالبلد إلى التقسيم الفعلي.
من حيث المبدأ، لا شيء يمنع المالكي، من موقعه الدستوري بالذات، من أن يقلب الطاولة على أميركا والسعودية وإيران وداعش الخ، بإقراره فشل العملية السياسية الطائفية، والدعوة إلى مؤتمر وطني عراقي لا يستبعد أحداً، لإطلاق عملية سياسية وطنية، وفق دستور جديد، ومعالجة كل المطالب الشرعية المطروحة من كل الأطراف العراقية، على أساس أولوية مكافحة الإرهاب والطائفية والفساد ووقف النزاعات والشروع في المصالحات وإعادة الإعمار؛ لا نقول إن المالكي سوف يفعلها، لكننا نوضح، فقط، أن إمكانية تغيير شروط اللعبة، ليست مستحيلة.