كان هنالك تغييب تام للخطاب الفلسطيني أردنا ربط العملية التعلمية بعلم التربية
مزيد من الناس يدعمون فلسطين

في 10 و11 أيلول 2022، أقيمت ندوة في مقر جريدة «السفير» في بيروت، التقى وفد دولي، ضمن برنامج «تعليم فلسطين» التابع لـ«AMED» (البرنامج الأكاديمي لدراسات الجاليات العربية والمسلمة في المهجر في جامعة ولاية سان فرانسيسكو). وهذه السنة، تزامن انعقاد هذا الاجتماع مع إحياء الذكرى الأربعين للاجتياح الإسرائيلي للبنان ومذبحة صبرا وشاتيلا. في مقابلة لـ«الأخبار» مع مديرة برنامج «AMED» وكبيرة الباحثين فيه الأستاذة في كلية التاريخ والدراسات العرقية في جامعة ولاية سان فرانسيسكو الأميركية الدكتورة رباب عبد الهادي، تناولت برنامج «تعليم فلسطين»، وإحياء تيارات العدالة من قلب صفوف الجامعات، في فلسطين، ومن أجلها.

أنت تتولين إدارة برنامج «تعليم فلسطين» المندرج تحت مظلة دراسات إنهاء الاستعمار. اشرحي لنا قليلاً تاريخ هذه المبادرة، وكيف تمكّنت من أن تصبحي رائدة في الخطاب السائد لدراسات إنهاء الاستعمار؟
- إنّ برنامج «تعليم فلسطين» هو في الواقع التحديث الأكثر رسمية في مسألة تعليم فلسطين، إذ لطالما أسهم المثقفون الفلسطينيون في إنتاج المعرفة في سبيل تحقيق العدالة، وفي إنتاج المعرفة عن فلسطين والمقاومة. إذا قرأت، على سبيل المثال، الأدبيات الفلسطينية، ستجدين الكثير من المواد الغنية، والكثير من الكتابات والمناقشات المتاحة باللغة الإنكليزية. فهذه الظاهرة موجودة فعلاً، ونحن لا ندّعي أننا أوّل من ينتج المعرفة من أجل العدالة، لكننا أوّل من جاء ببرنامج تعليم فلسطين- بيداغوجيا الممارسة وعدم قابلية العدالة للتجزئة. بصفتنا ضمن برنامج «تعليم فلسطين»، واخترنا كلمة «تعليم»، لا برنامج «بحوث فلسطين»، لأننا أردنا ربط العملية التعلمية بعلم التربية، وأردنا ربط علم التربية بالناس داخل الصفوف الدراسية وخارجها، أي داخل الجامعة الرسمية مع مجتمعات السكان الأصليين في الخارج، فهم ينتجون المعرفة من دون أن يكونوا بالضرورة علماء، أو حاملي شهادات دكتوراه. وقد يشمل ذلك السجون والمراكز والأحياء وغيرها، حيث ينتج الناس نوعاً من المعرفة.
فكرة «عدم قابلية العدالة للتجزئة» هي أن فلسطين ليست استثناء. هي تشمل العدالة في فلسطين ومن أجلها. والمسألة ليست مرتبطة فقط بفلسطين، وبتحقيق العدالة للقضية الفلسطينية، بل نحن نريد فلسطين عادلة. لذلك نحن لا نتحدث عن امتلاك دولة وعلم، بل عن الإنصاف والعدالة الاجتماعية، أي أنّنا لا نتحدث عن الدولة النيوليبرالية.
هكذا جاءت الفكرة بشكل عام. أمّا حول اعتبارها مناهضة للاستعمار، فذلك لأنني ببساطة لا أعتقد أنه يمكنك دراسة فلسطين من دون الاعتراف والالتزام بأن النضال من أجل فلسطين وإحلال العدالة فيها يفرض مواجهة نظام عنصري استعماري استيطاني.

هل تقولين إنه آخر كيان استعماري استيطاني من نوعه؟
- في الواقع، هو ليس الأخير. لديك الولايات المتحدة، لديك كندا، لديك تلك الموجودة في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، على سبيل المثال، يوجد حراك ضخم هناك في تشيلي، حول حقوق جماعة مابوتشي، وقد خسروا لتوهم استفتاءً. ستجدين الكثير إذاً، يمكنك حتى الذهاب إلى جنوب أفريقيا والتحدث مع السكان الأصليين حول ما يحصل معهم. هي ليست «الأخيرة»، لكن ما يميّز إسرائيل أنّها أُكسبت طابعاً «استثنائياً»، إذ تمّ تصويرها على أنّها دولة نموذجية، والديموقراطية «الوحيدة» في المنطقة، وهذا تصوير خاطئ، وعلى أنها تعمل على تحديث العالم العربي، وهو ليس صحيحاً أيضاً.
هناك غالباً مشكلة تتمثّل في إعطاء الأصوات الغربية شرعية أكبر من أصوات السكان الأصليين، الذين يعرفون التاريخ، والمسار التاريخي، وروايات المقاومة، في وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، لهذه الممارسة تأثير مهيمن، وهو يشوّه رواياتنا.
لا أعتقد أنه يمكنك دراسة فلسطين من دون الاعتراف والالتزام بأن النضال من أجل فلسطين وإحلال العدالة فيها يفرض مواجهة نظام عنصري استعماري


إنها مشكلة في التحدي السائد، نعم. يتمّ إسكات الأصوات المهمشة، ونحن نريد أن نسمع ما لديهم. إذا كنت تريدين التحدث عن النضال، فأنت بحاجة إلى سماع ما يقوله الناس، أي من هم معنيون بما يحصل. نحن نركز أيضاً على الأرشيف التاريخي، لدى الناس الكثير من الأحداث في ذاكرتهم، والتي ستزول في النهاية، لذلك نريد إنشاء حوار بين الأجيال، أي مع النشطاء الأصغر سناً، الذين لم يعرفوا هذه الأحداث يوماً لأنّهم لم يواكبوها ولم تتمّ كتابتها، وذلك إمّا لأنهم كانوا مشغولين جداً بالكفاح، فلم يتسنّ لهم الوقت لكتابتها، أو بسبب وجود فجوة في الوضع الفلسطيني، ومواقف أخرى أيضاً، ما بين أوسلو، وبدء انتفاضة الأقصى. كما كان هنالك تغييب تام للخطاب الفلسطيني ما جعله محدوداً للغاية، ولا يأتي على ذكر حق العودة. حق العودة غير قابل للتفاوض. لم يتم ذكر اللاجئين، أو الحديث عن ضرورة تحدي المشروع الاستعماري الاستيطاني ككل فعلياً، بدلاً من الاكتفاء بمجرد الحديث عن دولة ومستوطنات غير شرعية وشرعية. عن أي مستوطنات شرعية نتحدث؟ هم جميعهم استعماريون!
نحن نعمل على التعاون. في كل مرة نقوم فيها بتشكيل وفود إلى فلسطين، لا يكون ذلك بهدف السياحة. الأمر لا يتعلق بأشخاص يأتون ويراقبون، ويشعرون بقليل من الأسى تجاه الفلسطينيين، أو يقومون ببعض الأعمال الخيرية ثمّ يعودون إلى ديارهم. ما نقوم به هو نوع من التضامن المتبادل.
قمنا بمشروعين مع سماح إدريس، رحمه الله، عن الولايات المتحدة من الداخل، وحصلنا على مساعدة بعض المثقفين السود، حول تحرير السود وعدم قابلية العدالة للتجزئة، وكانت جميع الأسئلة تتمحور حول انتفاضة السود عام 2020. جميعهم كانوا يتحدثون عن التضامن مع فلسطين. لم يتمّ التحضير مسبقاً لهذه الأسئلة، وقد شملت التعويضات، والتحرير، وما يرتبط بهذا النضال الفلسطيني هو الاعتراف بتاريخنا أيضاً؛ ما حدث في عام 1948، ضرورة المحاسبة، وأنه ينبغي تعويض كل لاجئ فلسطيني، وأن حق العودة غير قابل للتفاوض.
أمّا بالنسبة لطلابنا المولودين في الولايات المتحدة، فكيف يعرّفون عن أنفسهم؟ لذلك نقوم بعمل مقارن، ونتحدث عن التواريخ المقارنة، ولا نخلط أبداً بين تاريخ الأماكن التي ندرسها. نحن نؤكد أن المقارنة تعني الاختلاف. لا يوجد سياق مثل سياق آخر، علينا أن نقوم بعمل شاق لفهم التاريخ ومسارات التنمية، قبل أن نكتشف أين تكمن نقاط النضال المشترك.

في ما يتعلق بالكفاح المسلح وأشكال النضال الأخرى، فإن فلسطين تحقق في هذه المرحلة نجاحاً أكثر من أي وقت مضى في تاريخها. السردية الصهيونية تفشل، لكن بالطبع أنا على ثقة بأنك، كأكاديمية، تتعرّضين للقمع أكثر من أي وقت مضى. ماذا يعني هذا بالنسبة لك؟
- هناك أزمة. منذ بداية، وحتى قبل، إنشاء دولة إسرائيل، كانت إحدى المهام الرئيسية المسندة إلى الموساد، إلى وزارة الدفاع والأمن والشؤون العامة، هي الحفاظ على الصورة العامة. لقد فشلوا في ذلك، وجزء من ذلك يعود إلى أنهم غير قادرين على مساعدة أنفسهم، إنهم نظام استعماري استيطاني. كيف سيقومون بقمع وسحق الأشخاص الذين يقاومون، والذين لديهم بالفعل سرديتهم؟ يتمتعون بالدعم المادي، ولديهم القوة، وهم مرتبطون بالحزبين الديموقراطي والجمهوري الأميركيين، وصناعة اللوبي الصهيوني، لكنهم يفشلون، ولذا فهم يصبحون أكثر فأكثر قذارة.
إنهم يهاجموننا لأننا نطالب بإضفاء الشرعية على مناهج تدريس فلسطين في جميع الجامعات والمدارس، والذي من شأنه أن يعزز التفكير النقدي. يمكن ألا يتفق الطلاب معنا، لكننا نريد فقط تقديم المعرفة، حول تاريخ الولايات المتحدة مثلاً، وتاريخ العبودية (وهما يعنيان الأمر ذاته). تظهر استطلاعات الرأي العام أن المزيد من الناس يدعمون فلسطين، وهم مندهشون بقدرة الفلسطينيين الدائمة على التحمل. وهذا ليس بغريب، إذ يتعلق الأمر بأناس يريدون أن يكونوا أحراراً. وأهم خطوة في سبيل منع التطبيع مع حالة القمع هذه هو التأكيد على أهمية فرض المحاسبة، وهي خطوة مهمة جداً في سبيل تحقيق العدالة في قضية مذبحة صبرا وشاتيلا، ومن الأمثلة على ذلك دعوة «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» (BDS) إلى فرض عقوبات على إسرائيل حول ما حصل في جنوب أفريقيا.