القاهرة | من دون سابق إنذار، اتّخذ البنك المركزي المصري قراراً بتحرير جديد لسعر صرف الجنيه، ما أدّى إلى ارتفاع سعره أمام الدولار بصورة تفوق معدّلات ما حدث في تشرين الثاني 2016، عند التعويم للمرّة الأولى (بلغ سعر الدولار أمس 18.55 جنيهاً). وشمل القرار، أيضاً، هذه المرّة، زيادة الفائدة على الشهادات بالجنيه إلى 18%، في مقابل مزيد من الإجراءات التي قيّدت فعلياً التعاملات المالية في البنوك بالعملات الأجنبية، سواءً للمواطنين أو للشركات والأعمال الخاصة. وقبل ثلاثة أيام فقط من موعد اجتماع لجنة السياسات في البنك المركزي، والذي كان محدّداً اليوم الأربعاء، عقدت اللجنة اجتماعاً مفاجئاً ولّد إرباكاً كبيراً، لتُسارع الحكومة على إثره إلى الإعلان عن زيادة الرواتب الحكومية والمعاشات ابتداءً من الشهر المقبل للعاملين في القطاع الحكومي، والمؤمَّن عليهم بدءاً من شهر تموز، من دون أيّ إجراءات أخرى تجاه أكثر من نصف المصريين، ولا سيما الشباب العاملين في القطاع الخاص.ويأتي قرار «المركزي»، الثاني من نوعه خلال أقلّ من 7 سنوات، في وقت تسبّب فيه برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي اقترض بموجبه النظام من صندوق النقد 12 مليار دولار - بخلاف الاقتراض خلال فترة فيروس «كورونا» وما تبعه من إجراءات اقتصادية -، بتحجيم القدرة الشرائية والصعود بالتضخّم إلى معدّلات قصوى. وعلى رغم تأكيد خبراء الاقتصاد أن الحلّ ليس في تحرير سعر الصرف ورفع الفائدة، وإنّما في السعي لتنفيذ مشروعات ذات جدوى حقيقية، بدلاً من القصور الرئاسية والطرق الشاسعة في قلب الصحراء، إلّا أن النظام يواصل الترويج لكون ما حقّقه في الفترة الماضية «إنجازاً». وفي السياق، كشفت مصادر مطّلعة، لـ«الأخبار»، أن توجيهات صدرت من جهات سيادية إلى وسائل الإعلام، بتحضير الرأي العام لتغييرات أخرى سيشهدها سعر الصرف في الفترة المقبلة، تستهدف تحسين قيمة الجنيه بدفْعٍ من الاستثمارات المتوقّعة، مع دعوات إلى ترشيد الاستهلاك وعرض نماذج لعملات في أسواق عالمية تعرّضت لهزات مشابهة في مقدّمتها الاقتصاد التركي.
لم يعرض النظام حتى الآن رؤية واضحة للتعامل مع الوضع الاقتصادي العالمي المضطرب


وقبل أسابيع قليلة، شنّ النظام المصري، عبر أدواته الإعلامية، هجوماً حادّاً على جميع المؤسسات الاقتصادية الدولية التي انتقدت عملية تقييم سعر الجنيه بأعلى من سعره الحقيقي. وتوقّعت هذه المؤسسات وصول الدولار إلى 18 جنيهاً تقريباً، نتيجة خروج الأموال السائلة من البنوك بشكل متسارع خلال الأسابيع الماضية، في ظلّ استمرار البنك المركزي في تثبيت السعر عند 15.60 للدولار الواحد. وتغنّت الحملة الإعلامية هذه بـ«الإصلاح» الاقتصادي، وقدرة الاقتصاد المصري على مواجهة الأزمات وتلقّي الصدمات، بينما الحقيقة أن لا رؤية اقتصادية واضحة، وأن ما جرى تنفيذه أخيراً في خلال ستّ ساعات، إنّما حُضّر على عجل بتزكية من الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليُترك المواطنون، للمرّة الثانية على التوالي، لمصيرهم، فيما سارع التجار إلى زيادة الأسعار على الفور، بنسب أعلى من المتوقّع.
المفارقة أن قرارات الحكومة المصرية سيكون المستفيد الأكبر منها الاقتصاد الإماراتي، الذي يسعى صندوقه السيادي للاستحواذ على أسهم في عدد من المشروعات المدرَجة في البورصة المصرية، ومنها شركة «فوري» والبنك التجاري الدولي، في استثمارات ستُضخ على أساس قيمة جنيه متدنّية. وتأتي هذه المكاسب في مقابل سعي القاهرة للحصول على أموال من الخليج كودائع للحفاظ على الاقتصاد المصري، ومنع انهيار الجنيه بشكل أكبر، في ظلّ تزايد الديون المفترض سدادها، وخطّة الاقتراض الجديدة من «صندوق النقد الدولي»، والتي ستعلَن في الأسابيع المقبلة، على أن تتحمّلها موازنة الدولة، ما يعني أن أكثر من نصف مخصّصات الموازنة الجديدة ستذهب لسداد القروض فقط. وحتى الآن، لم يعلَن سوى عن الاستثمارات الإماراتية الجديدة، بالتزامن مع وصول ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، إلى شرم الشيخ، ولقائه السيسي. كذلك، لا يزال النظام المصري يعوّل على تحقيق عائدات اقتصادية من تصدير الغاز إلى الخارج، في محاولة لسدّ النقص المتوقّع في عائدات السياحة، التي تعاني في الوقت الحالي من تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، مع توقّف الوفود الروسية والأوكرانية التي كانت تشكّل نحو 50% من الحركة السياحية.
وأمام هذه الوقائع، لم يَعرض النظام المصري، حتى الآن، أيّ خطّة للتعامل مع الوضع الاقتصادي المضطرب عالمياً، في حين ستعيد الحكومة صياغة موازنة العام المالي المقبل الذي يبدأ في شهر تموز، في ظلّ توقّعات بقفزة في التضخّم، ليصل على أساس شهري إلى أكثر من 20%. وهي توقّعات ترافقها أخرى بزيادة في أسعار المحروقات، يُفترض ألّا تعلو عن 10%، وستُعلن خلال الأيام المقبلة.