بينما تواصل إسرائيل الرسمية التزام الصمت حيال ما يجري في السودان، تتواتر الأنباء حول أنشطة قام بها مسؤولوها قبل انقلاب الـ25 من تشرين الأوّل وبعده، بما يعزّز الشكوك في دور لها في هذا الحدث. وإذ يبدو أكيداً أن لتل أبيب مصلحة في تثبيت الانقلاب، بالنظر إلى العلاقة «الخاصة والثابتة والمتينة» التي تجمعها بالقائمين على الانقلاب، فهي تراهن على أن الولايات المتحدة التي لا تزال تبدي ممانعة إزاء سيطرة العسكر على السلطة، ستخضع للأمر الواقع في نهاية المطاف، مدفوعةً بالوقائع التي يسعى عبد الفتاح البرهان وحلفاؤه إلى فرضها على الأرض
لا تُخفي إسرائيل، وإن إعلامياً فقط في هذه المرحلة، رغبتها في حصْر علاقاتها مع السودان بالمؤسّسة العسكرية. يكاد مسؤولو هذه المؤسسة يمثّلون الوجهة الوحيدة لجهاز «الموساد»، الذي كانت له قبل الانقلاب الأخير وبعده زيارات لافتة إلى الخرطوم، التقى خلالها قادة هذا الانقلاب، الأمر الذي أثار أكثر من علامة استفهام حول دور تل أبيب في ما يجري هناك. وما عزّز تلك التساؤلات الأنباء عن زيارة قام بها وفد عسكري سوداني إلى إسرائيل قبل أسبوعَين من الانقلاب، حيث التقى مسؤولين في «الموساد»، ووضعَهم، بحسب الإعلام العبري، في أجواء الأوضاع «الصعبة» التي يعيشها السودان والجهات الحاكمة فيه، وتحديداً الخلافات بين العسكريين والسياسيين، والتي «تلقي بظلالها على مجمل المستقبل السوداني». لكنّ الوفد السوداني لم يُطلع «الموساد»، بحسب موقع «واللا» العبري، على «نيّات انقلابية وتوجّه للإطاحة برئيس الحكومة عبدالله حمدوك»، وإن كانت التقديرات لا تستبعد ذلك.
ولا تُخفي إسرائيل علاقة «الموساد» الخاصة و«المتينة» و«الثابتة» مع قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان، الذي يمثّل الشخصية المحورية في مسار تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل خلال العامَين الماضيين، ويدفع في اتّجاهه أكثر من غيره مِمّن شاركهم الحكم في السابق، وعاد وانقلب عليهم، ومن بينهم رئيس الحكومة المُطاح به. وبرز في أعقاب انقلاب البرهان على شركائه، صمت رسمي إسرائيلي، خلافاً لمواقف رافضة صدرت من الولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً، ما قد يشير إلى تمايز في المصلحة بين تل أبيب وواشنطن، إذ تَنظر الولايات المتحدة إلى الحُكم في السودان ومآلاته من منظار الموازنة بين اتجاهَين اثنَين يتقاطعان عند مفترق التبعيّة لها، الأمر الذي يحفّزها على تشجيع نوع من الشراكة بين الطرفين، إلّا أن الأمر ليس مطابقاً تماماً لدى إسرائيل، التي يبدو واضحاً تفضيلها طرفاً سودانياً على آخر. ذلك أن لدى تل أبيب مصلحة في أن تسرّع الخرطوم عملية التطبيع معها، وهو ما يخدم الأولى في أكثر من اتجاه، عسكري وأمني واقتصادي، وصولاً إلى هيمنة كاملة قد لا تكون متوافرة في دول أخرى مطبّعة معها. وعلى هذه الخلفية، لا مصلحة لإسرائيل في أن تنتقل السلطة من حاكم سوداني يحثّ الخُطى نحو إكمال التطبيع كأولوية بالنسبة إليه، إلى حاكم آخر لا يمانعه، لكنه أقلّ تحمّساً له. ومن هنا، التقت مصلحة تل أبيب مع مصلحة البرهان الذي يسعى إلى إقناع واشنطن أيضاً بأن تُعامل بلاده مثلما تعامل غيرها من الدول العربية التابعة لها بلا تمييز؛ فإن كانت تتمسّك بالحكّام العرب كما هم، على رغم ديكتاتوريّتهم وتسلّطهم المطلق، فعليها أن تتقبّل السودان كما هو، من دون أيّ تطلّع آخر «لا فائدة منه».
تتقوّى الشكوك في دور لتل أبيب في التحريض على الانقلاب أو الدفع في اتجاهه


إزاء كلّ ما تَقدّم، تتقوّى الشكوك في دور لتل أبيب في التحريض على الانقلاب أو الدفع في اتجاهه. فإلى جانب مصلحتها في وقف انتقال السلطة إلى المدنيين، الأقلّ اندفاعاً نحو التطبيع معها، فإن علاقتها بالبرهان هي علاقة خاصة، قادها الموساد منذ أعوام وما زال، وهو ما يُعدّ من ناحية البرهان نفسه، ورقة قوة يحوزها، من شأنها دعمه في أيّ مسار يسلكه، وإن تمايز بقدر مع الإدارة الأميركية وتفضيلاتها. هكذا، تتعامل إسرائيل مع الساحة السودانية وكأنها جهة لها القيمومة على ما يجري فيها، ولربّما تكفي الإشارة في ذلك إلى أن وفداً رفيعاً من «الموساد» زار الخرطوم قبل أيام، في «زيارة عمل استقصائية»، يلتقي خلالها مسؤولي الصف الثاني في المؤسسة العسكرية. وبحسب موقع «axios» الأميركي نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين «مطّلعين»، فإن «هذه كانت مجرّد مهمّة لتحديد الحقائق». واللافت، في ما نشره الموقع أيضاً، أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، طلب من وزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس، أن تعمل تل أبيب على حثّ المؤسسة العسكرية في السودان على العودة إلى المسار المتّفق عليه، وهو طلب مبنيّ على إدراك واشنطن متانة العلاقة التي تربط البرهان بإسرائيل، وأولويتها بالنسبة إلى كلّ منهما.
وإذا كان لإسرائيل، بالفعل، دورٌ ما في الانقلاب، فإن السؤال الرئيس اليوم يتمحور حول موقفها ممّا بعده. إلى الآن، لا يزال الصمت الرسمي مهيمناً، في انتظار الموقف النهائي للإدارة الأميركية، والذي سيتحدّد لاحقاً وفقاً لاعتبارات عدة، من بينها الحقائق التي فرضها الانقلاب نفسه، والتي تمثّل موضع رهان إسرائيلي، على رغم أن تل أبيب لا تتوقّع أي خسائر كبيرة لاحقة، مهما كانت اتجاهات الأمور.