لا تهدف هذه المقالة، في عِشرية الحراك البحريني، إلى نمط من «الكرنفالية السنوية» بهذا الحدث الشعبي الديموقراطي على رغم أهمّيته، بقدر ما تحاول فهم الكمّ الهائل من السكاكين التي رُفعت في وجه هذا الحراك الذي لم يكن مُسلّحاً حتى بسكّين واحدة. في البحرين أقلّية تحكم أغلبية، وهو توصيف لا علاقة له بالانتماء الطائفي للمشاركين في الحراك في عام 2011. وفي البحرين أيضاً، صنوف شتّى من الانتهاكات والتعدّيات المدوَّنة في الصكوك الدولية، والتي سنجدها ماثلة أمامنا في هذه الجزيرة الصغيرة بسكّانها وجغرافيّتها. وضع إنساني وسياسي مخيف في تردّيه، لخّصه التقرير الأخير لـ«منظّمة العفو الدولية»، وعنوانه «البحرين... سحق الإصلاح بعد عشر سنوات من الانتفاضة».
التحطيم المتواصل
هناك تحطيم كامل لكلّ الحقوق العالمية التي نادى بها المجتمعون في «دوّار اللؤلؤة» عام 2011. وذلك مخطّط هيكلي متواصل من القمع السياسي الذي يستهدف قطاعات واسعة من المواطنين، ويوازيه استبداد منقطع النظير في إدارة الدولة، بالإضافة إلى إعمال التمييز الطائفي في الوظائف الحكومية والمزايا، ناهيك عن العزل السياسي للمعارضين من المشاركة في الحياة العامة، وهدر الحرّيات الدينية والصحافية والذي تَكلّل بإغلاق «جريدة الوسط»، بعدما مثّلت مساحة مغايرة للوجهة الرسمية. بناءً عليه، لا يمكن الحديث الآن عن مظاهر الإصلاح التي غادرت الواقع بأفعال محسوبة سلفاً، سُرّبت في «تقرير البندر» الشهير. ولم تكن ثمّة وصفة جاهزة للسحق أكبر من سحق المعنويات واستبدال معالجات مشحونة بها، بتقسيم المجتمع بشكل عمدي، وتجريف رمز ثورة البحرين الشعبية وأيقونتها (دوّار اللؤلؤة) وإعادة تسميته بمسمّى «تقاطع الفاروق»، وإقامة قلعة عسكرية في محيطه، وهي محاولة ليست بريئة في المحو والانتقام.

سكاكين العساكر
يصف أحد المُحلّلين السعوديين دخول «قوات درع الجزيرة» إلى البحرين بأنه بمثابة «ردّ الجميل» للنظام في المنامة، لوقوفه إلى جانب «الشقيقة الخليجية الكبرى» إبّان «حرب الخليج»، وهجمات الرئيس العراقي آنذاك، صدام حسين. مفارقة غريبة ومليئة بالمغالطات، لكن الأكثر رجاحة في التدخل العسكري غير القانوني هو حالة القلق من انتقال عدوى المطالبات بالمشاركة السياسية إلى جيران «الجزيرة الصغيرة»، وهو أمرٌ مُحرّم في عقيدة هذه الأسر الحاكمة التي تهيمن على السلطة والثروة في «حوض الخليج النفطي». ولم يكن قرار الانقضاض بالعساكر على تجمّع «دوار اللؤلؤة» فردياً؛ فالمسألة تكشف تخادماً بين أطراف متشدّدة في الحكم، ونظرائها في أنظمة الخليج، وبالتحديد في السعودية والإمارات.
لعلّ البحرينيين في حراكهم الشعبي كانوا الأكثر تعرُّضاً للاغتيال من الإعلام العربي


يتذكّر البحرينيون جيداً يوم 15 آذار 2011، موعد دخول قوّات «درع الجزيرة»، والمكوّن من حوالى 1200 جندي سعودي وإماراتي، جنباً إلى جنب عناصر العسكر في البحرين. جميعهم تورّطوا في ما بعد في انتهاكات جسيمة بحقّ المتظاهرين، ليس في «دوار اللؤلؤة» فحسب، بل حتى في المناطق والبلدات التي تمّت محاصرتها، والتنكيل بالمواطنين فيها، وإشاعة الرعب في طرقاتها. بالتأكيد مثل هذه التدخُّلات العسكرية الخارجية غير المشروعة كانت لها انعكاسات مميتة في إعاقة حصول البحرينيين على مطالبهم السياسية والدستورية، وهو ما زاد من تعقيد الأزمة وبقائها من دون حلّ لعَقد من الزمن. لقد فعلت «سكاكين العساكر» البحرينية والخليجية فعلتها في أناس عُزّل ليس لهم إلّا قبضات أيديهم وصرخات حناجرهم، وستبقى هذه المعالجات الأمنية تُشكّل ضربة قاسية في خاصرة المنادين بالديموقراطية، لكنها لن تميتهم، فالشعوب هي الباقية.

سكاكين الإعلام
لعلّ البحرينيين في حراكهم الشعبي كانوا الأكثر تعرُّضاً للاغتيال من الإعلام العربي المُلوَّث بالسياسة والطائفية. فقد امتلات شاشات الإعلام في المنطقة العربية بتغطية الثورات في تونس ومصر واليمن، وما حدث في سوريا، أمّا في البحرين انقلبت الصورة وانعكست تماماً، فلا أثر للحراك الشعبي على شاشات القنوات العربية الإخبارية المشهورة، ولو حدث ذلك سيكون حضوراً مُسيّساً وخبيثاً، باعتبار الحدث إرهابياً وعنيفاً بخلفيات طائفية ضدّ المجتمع والدولة. مع هذا، لم يتوقّف البحرينيون عن محاولاتهم كسر تلك السكاكين، بالتحوُّل نحو التظاهر في منصّات التواصل الاجتماعي في الفضاء الافتراضي، وتحويلها إلى قنوات إعلامية تحكي مظالم فظيعة، وتعدّيات ممنهجة، واعتقالات تعسفية، بقدرات حيوية تغلّبت على التجهيل والتغييب المتعمّدَيْن.
إن النظام في البحرين، بعد عشر سنوات من الأزمة السياسية، بات عليه أن يمتثل للمرجعيّات التي تَوافق عليها مع الشعب، وفي مقدّمتها «ميثاق العمل الوطني»، الذي حاز «98.4%» من أصوات البحرينيين في 2001، والذي يُفترض أنه رسم صورة البحرين السياسية والدستورية الجديدة، في استشراف بعيد عن الرغبات المنفردة في تجاوز الميثاق، أو استغلال التصويت الشعبي للعبث في العقد الاجتماعي الذي يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

* سياسي بحريني