أطلقت السّلطات في البحرين، الثلاثاء، سراح الناشط الحقوقي المعروف نبيل رجب، بعد أن قضى قرابة أربع سنوات من مدة الأحكام الصّادرة بحقه، والتي تصل إلى سبع سنوات، وبتهم تشمل التنديد بالحرب التي تقودها السّعودية على اليمن، منذ عام 2015، وكشْفه الانتهاكات التي يتعرّض لها السجناء في سجن جو المركزي، إضافة إلى تصريحاته الإعلامية. وجاء الإفراج عن رجب وفق قانون العقوبات البديلة، الذي يسمح بإخلاء السجين قبل إتمام مدة محكوميته، ضمن شروط وقيود معيّنة، وهو ما اعتبره نشطاء «ظلماً إضافياً».جزء من المعنى الاحتجاجي الذي أداره نبيل رجب، في الفترة الأولى بعد عام 2011، يمكن فهْمه بالإحالة إلى القاموس الإنسانيّ الذي اجتهد في ترسيخه بين النّاس، وعلى مهل، ومن غير التورّط بادّعاءات السياسيين. كان من الممكن أن يستثمر رجب «الحصانة» التي تحصّل عليها بعد أن أضحى شخصية دولية، ومحميّاً بقوائم طويلة من المنظمات الحقوقية، إضافة إلى شبكة من العلاقات الخاصّة مع كبار الشخصيات في دول العالم. اختار رجب، بدلاً من الاستثمارات غير المجدية، طريقة مختلفة في إدارة الوضع الحقوقي المتدهور في البحرين. هذه الطريقة لم تكن جاهزة تماماً، ولكنها تراكمت مع تراكم خبراته في الاحتجاج، وتحديداً الاحتجاج غير التقليدي الذي تلاحمَ مع الاعتقال والدخول، أكثر من مرّة، في تجربة السجون. ففي كل مرّة يخرج فيها رجب من سجنه، كان يضيف على طريقته أداء أو لحْناً أو باباً، وبرفقة تشكيلة جديدة من العبارات والخيارات. هذه المرّة، ولأنّ الإفراج عن رجب له خصوصيّة مختلفة، فإنّ النّاس وزملاءه يجدون أنفسهم في وضْع الانتظار والترقّب لنوع الإضافة الجديدة التي سيقدّمها رجب، وبعد تجربة اعتقال طويلة، تبدو الأكثر معاناة ومرارة.
إنّ المكوّن الثابت في وضعيّة الحقوقي نبيل رجب؛ هو البقاء وفيّاً للمكانة التي حظي بها في قلوبِ النّاس وعقولهم، حيث لم يعد يملك القدرة على «خيانة» الناس، والتخلّي عنهم، وأصبح مضغوطاً أكثر من أيّ وقت مضى بضرورة أن يردّ الجميل، ولو على حساب راحته، ولو اضطرّ لمعاودة اختبار تجربة السجن وفقدان حرّيته الشخصية. هذا من حيث الإجمال العام. إلا أنّ التجربة الأخيرة لرجب، وخروجه منها وفق قانون العقوبات البديلة، الذي فرضَ عليه البقاء في المنزل، بما يشبه الإقامة الجبريّة، قد تُملي عليه الدّخول في اختبارات جديدة، تستدعي روحَ التكتيكات السّابقة التي ثبّتها قبل اعتقاله الأخير في 30 كانون الأول/ديسمبر 2016، وهو ما يعني أن الممارسة الاحتجاجيّة لرجب لا تعني، بالضّرورة، الاستمرار في المدرسة التي أحدثها رفيق دربه عبد الهادي الخواجة، المحكوم بالسجن المؤبد، والتي اجتهدت منذ البدء في كسْر التّابوهات المعتادة في الاحتجاج المحلّي. لقد قاربَ رجب بين روح العمل الحقوقي وآليّات السياسة، ولكن من غير «أن يكون له طموح سياسيّ»، كما عبّر ذات مرّة، بل كان يصرّ على إمكان أن يُجدّد المرء قناعاته، وأن يضعَ احتمالات مفتوحة للاختلاف مع نفسه قبل الآخرين، ومن غير حَرَج أو شعور بالتراجع والهزيمة.
خرج رجب وفق قانون العقوبات البديلة، الذي فرضَ عليه البقاء في المنزل، بما يشبه الإقامة الجبريّة


كيف يصنعُ رجب هذا التّكوين المتوازن، وعلى النّحو الذي يجعلنا نجمعُ بين القبول (وأحياناً التّسليم) بتجديد قناعاته، والرّضى بتغيير تكتيكاته في الاحتجاج، وبإظهاره الشّجاعة في الاعتراف بالخطأ، وبين الشّعور الكامل بصدقه الطّري، وأنّه لا زال شيئاً ثميناً من أشياء الثّورة؟ في هذا التّكوين المتوازن، لا غرابة أن تحتشد مواقفُ الاحتفاء برجب بعد الإفراج عنه، رغم التناقضات السياسيّة والأيديولوجيّة لأصحاب هذه المواقف. بفضل هذه الديناميّة التي تكاد خاصيّة استثنائية لرجب؛ كان من غير المفاجئ أن يشيد نائب رئيس البرلمان البحريني، عبد النبي سلمان، بخطوة الإفراج عن رجب، وأن يعبّر عن أمله في أن يفتح هذا الإفراج الطريق لإنهاء المأزق السياسي الذي تعاني منه البلاد. في المناسبة نفسها، فإنّ القيادي في حركة «أحرار البحرين» المعارضة، سعيد الشهابي، يُسجّل الإفراج عن رجب في خانة الهزائم المتتالية التي يتلقّاها النّظام البحريني، ويشدّد الشّهابي على ألا يُمنَح النظام فرصة لالتقاط الأنفاس تحت عنوان «امتداح» خطوة الإفراج والتغني بها.
بين هذه المسافات غير المنسجمة في التعاطي مع حدث الإفراج عن رجب، يجد «مركز البحرين للحوار والتسامح» بأن الأخير «بما يمثله من قيمة وطنيّة وحقوقيّة، من الممكن أن يكون مبادرة افتتاحيّة تعقبها مبادراتٌ أوسع وأكثر شمولاً، وتبدأ بالإفراج عن جميع السّجناء السياسيين في البحرين». ويشبك المركز، الذي يديره الناشط الشيخ ميثم السلمان، الذي عاد إلى البحرين أخيراً، بين خطوة الإفراج عن رجب، وبين «الوقْع الإيجابي» الذي يمكن ضخّه في «بقيّة الملفات التي تتعلّق بالتمهيد للحوار والمصالحة الوطنيّة». وهذا التشبيك لا يتحرّك بعيداً عن دعوة المركز إلى أن يستمر رجب في دوره «من أجل تهيئة الأجواء لتعزيز الواقع الحقوقي في البلاد». ورغم هذا التباين، يتلاقى الجميعُ في التهنئة بالإفراج عن رجب والاعتزاز بـ«كفاحه من أجل حقوق الانسان»، كما يقول عبد الغني الخنجر، الناطق باسم «حركة الحريات والديمقراطية» (حق). إلا أن الخنجر يعود للاستدراك على وجوب أن يكون الإفراج «غير مشروط بقيد، لكونه ليس مجرماً، وأن ما فعله هو مجرّد التعبير عن رأيه على منصّة تويتر في ما يتعلّق بالعدوان على اليمن». ويعتبر الخنجر إقدام السلطات في البحرين على وضع القيود والشروط على حرّية رجب، بعد الإفراج عنه، هو «بمثابة الاستمرار في سياسة الظلم والتضييق التي تعرّض لها رجب داخل السجن، بما في ذلك الحرمان من حقوقه الطبيعية والمعاملة الحاطّة بالكرامة». وبمعزل عن التبعات التي يمكن أن تستجد مع الشروط والقيود، وماذا يمكن أن يفعل رجب لاختراقها، إلا أن الخنجر لا يتردّد في الإشادة برجب وبتاريخه الحقوقي، مع إبداء مشاعر التضامن معه لكي «يواصل الدرب وبذل الجهود التي قدّمها طيلة السنوات الماضية، للدفاع عن حقوق الإنسان، وشعب البحرين المظلوم».
من المؤكد أن حجم التوقّعات، وأيضاً المخاوف، من رجب غير محدودة، وهي تتسع باتساع اختلاف الجهات التي توجّهت إليه بتهنئة الخروج من محنة الاعتقال، إلا أنّ ثمّة ضرورة أن يستحضر كل المهنئين حقيقة أن رجب عندما يُقلع عن خيار سابق، أو يبدأ في توجيه مساره في اتجاه آخر؛ فإنّه يُقلع أولاً عن الوقوع في الإضرار بالنّاس، والإساءة إلى خياراتهم الطبيعيّة. فما يفعله رجب هو أنّه يناور في دائرة الخيارات العملانيّة والتكتيكات، وليس في خيار الانتماء إلى النّاس والاستمرار في الإحساس العمومي. من هذه الزاوية على سبيل المثال، فإنّ الإقلاع عن التظاهر في العاصمة المنامة، ليس إقلاعاً عن الارتباط بالثّورة. والإقلاع عن إظهار التحدّيات اللفظية، وعدم التجاسر في نزْع الهيبات المفترضة للمؤسّسات الرسميّة؛ ليس خروجاً على النّاس وعنهم، وهو كذلك ليس رضوخاً استسلاميّاً للأمر الواقع، بما هو أمر قابل للتفتيت والتفكيك أصلاً. وما هو إجمالي وجمالي في هذه السرديّة، هو أن نبيل رجب لا يشعر بأنه مضطر، كثيراً، لتبرير اجتهاداته التي يقوم بها بعد كلّ تجربة اعتقال، لأنّه يقدّم ذلك بصحبة ما يُعزّز بقاءه في الانتماء الصّادق إلى النّاس، وألا يتركهم للضياع أو الضباع.