عمّان | حملة إقالات وهيكلة بدأها الملك الأردني، عبد الله الثاني، أخيراً، في أوساط بلاطه، الذي كان منذ انطلاق الحراك الشعبي عام 2011 موضع نقد، لجهة عدد موظفيه الضخم ويدهم الطولى في كل مرافق الدولة، إلى حدّ يمكن وصفهم معه، هم ودائرة المخابرات، بالدولة العميقة التي تدير البلاد. لكن هذه الخطوة لم تأتِ منفردة، بل أُتبعت بإقالة رأس المخابرات العامة، المؤسسة الأمنية الأكثر حساسية في المملكة.بدأ «الفرز الملكي» في البلاط، والذي لا يُعرف مداه، بإقالة مستشار الملك فيصل الشوبكي، الذي يحمل رتبة فريق أول. والشوبكي تولّى، قبل تعيينه في الديوان الملكي (آذار/ مارس 2017)، منصب مدير دائرة المخابرات، إضافة إلى كونه مستشاراً للملك لشؤون الأمن القومي منذ 2015. أما التغيير الثاني، فكان بإعادة تسمية منار الدباس «مستشاراً فقط» للملك، بعدما كان إضافة إلى ذلك مدير مكتبه منذ شباط/ فبراير 2018، الأمر الذي يثير تساؤلات عن مدى قرب الرجل من التوليفة التنفيذية التي تحيط بعبد الله، وما إذا كان يُفهم من التسمية الجديدة إبعاده فعلياً عن مكتب الملك، وخصوصاً أن المستشار قد لا يُستشار فعلياً. والدباس من الشخصيات التي رافقت الملك منذ بداية أزمة «صفقة القرن»، كما عمل مديراً تنفيذياً في مكتب الأمير السعودي تركي بن طلال بين 2006 و2010، قبل أن يدير مكتب ولي العهد الأردني، حسين، وهو أيضاً من الوجوه المعروفة التي عملت في السفارة الأردنية لدى واشنطن في بداية حكم عبد الله.
إذاً، لا تسمية بعد لمدير مكتب الملك، ومن غير الواضح ما إذا كانت صلاحيات الدباس السابقة ستُوزع على أكثر من شخص، كما أن من غير المحسوم إعادة تعيين الرجل في منصب آخر ــــ ربما وزاري ــــ قريباً، علماً بأن كل ذلك يجري مع اقتراب موعد إعلان الخطة الأميركية المُسمّاة «صفقة القرن»، وما حُكي (وفق تسريبات مصرية) عن تعديلات في الصف الأول في المملكة بالتزامن. أما مستشار الملك للشؤون الاقتصادية، محمد العسعس، فطاولته أيضاً إعادة التسمية ليصير مستشاراً كسابقه، قبل أن يتم تعيينه وزيراً للتخطيط والتعاون الدولي ووزير دولة للشؤون الاقتصادية. لكن هذا لم يتكرر مع اللاعبين الجدد حول عبد الله، مثل بشر الخصاونة الذي تم تعيينه مستشاراً للاتصال والتنسيق بعدما عمل سفيراً للمملكة لدى القاهرة، وكمال الناصر الذي أصبح مستشاراً للسياسات والإعلام.
يبدو أن الظروف المحيطة بالتغييرات سياسية ولا علاقة لها بتقصير أمني


على خط موازٍ، وبينما يكثّف الملك حضوره الداخلي ما بين لقاءات موسعة وزيارات للمحافظات ومشاركة في التدريبات العسكرية، بعث برسالة هي الأولى من نوعها علناً إلى مدير المخابرات الجديد، أحمد حسني حاتوقاي (لم يُذكر اسمه الثالث في الرسالة)، ذي الأصول الشركسية، الذي شغل سابقاً منصب مساعد مدير المخابرات لشؤون المناطق، بعدما عمل مديراً لمخابرات العاصمة حيث النخبة السياسية والسفارات ومركز إدارة الدولة. ويعيد تعيين شركسي في منصب حسّاس الآن إلى الأذهان حكم عبد الله الأول، عندما تم إنشاء إمارة شرق الأردن عام 1921، وكان الشركس حصراً هم الحرس المؤتمنون على القصر.
وحملت رسالة الملك الشديدة اللهجة انتقادات قاسية لمن وصفهم بأنهم «حادوا عن طريق الخدمة المخلصة للوطن»، في إشارة على ما يبدو إلى ضباط رفيعي المستوى تمت إقالتهم. وتُعدّ دائرة المخابرات في الأردن أقوى أذرع الدولة الأمنية لناحية التدريب والكفاءة، كما أنها أهم ركائز المحافظة على العرش. وبالتالي، يبعث استخدام الملك كلمتَي «حادوا» و«مخلصة» على التساؤل عن احتمال وجود تجاوز وطبيعته، في مرحلة وصفها عبد الله بنفسه بأنها حساسة، وربطها بثوابت أردنية من ضمنها «الدستور» الذي بموجبه يتقرر نظام الحكم النيابي الملكي الوراثي. أما مدير المخابرات الجديد، حاتوقاي، فبعث برسالة جوابية بروتوكولية نشرها الموقع الرسمي للديوان، وهي لم تخرج عن المألوف، ثم أعلن الديوان وصول رسالة أخرى من مدير المخابرات «المُقال»، عدنان الجندي (تسلم منصبه بعد ساعات من اختتام القمة العربية الـ 28 التي عُقدت في الأردن عام 2017، وتم ترفيعه أخيراً وإحالته على التقاعد فور قبول استقالته).
تبدو سياقات هذه التغييرات مرتبطة بالسياسة، أكثر منها بوجود تقصير أمني أو تراجع في الضبط الداخلي، وخصوصاً أن استدعاء الناشطين والطلب منهم الحدّ من نشاطهم مستمر. كما لا يمكن اعتبار التبديلات في المخابرات سابقة من نوعها، إذ دوماً ما يتم التغيير بسلاسة، وأحياناً على نحو صارخ على إثر قضايا مالية صدرت فيها أحكام قضائية، كما حدث مع مديرَي المخابرات السابقَين سميح البطيخي ومحمد الذهبي، والأخير جابه نفوذ مدير الديوان باسم عوض الله (كان حتى نهاية 2018 مبعوث الملك الخاص إلى السعودية). بالنتيجة، يظهر أن عبد الله لا يستشعر الأمان من أكثر المقربين إليه، وهذه التنقلات في الوقت بدل الضائع قبل إعلان «صفقة القرن» هي في نظر كثيرين محاولة للسيطرة على زمام الأمور، وخاصة أن أي تغيير في الوضع الحالي «غرب النهر» سيشكل أزمة شديدة بالنسبة إلى «الدولة الحائرة».