منذ زمن طويل والوضع في البحرين مدعاة للقلق والاهتمام بما يجري داخله عربياً وعالمياً. وذلك لم يقتصر البتة على التطورات التي شهدتها السنوات الثماني الفائتة. لقد عاينت بنفسي هذه المتغيرات منذ أكثر من عقدين من الزمن، بعدما قادني إليها نشاطي الحقوقي على صعيد العالم العربي. كنت شاهدة، من خلال ورشات العمل ومراقبة الانتخابات والاحتكاك مع نخبها المثقفة والناشطة سياسياً وحقوقياً، على تراجع تدريجي في مستوى الحقوق والحريات، وعلى انسداد الآفاق شيئاً فشيئاً أمام الرأي الآخر. ذلك، بعد فترة قصيرة ـــ بدت وكأنها بين مزدوجتين ـــ من الانفتاح النسبي وعودة بعض المناضلين البحرينيين، الذين عرفت بعضهم، من الخارج إلى وطنهم، وتكوين تجمعات حزبية وجمعيات حقوقية وحراك نشط لإرساء أسس مجتمع قائم على التعددية وترسيخ قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان. وإن كان لا بد من إطلالة مقتضبة على التاريخ الحديث لهذا البلد لتوضيح جزء من الصورة، أبدأ منذ إعلان استقلال البحرين عام 1971، وتوقيع معاهدة صداقة مع بريطانيا. في هذه السنة، أصبح الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أميراً، وبعدها بعامين (1973) كُتب دستور البلاد الذي أوقف العمل به لاحقاً 27 عاماً. عام 1999 شهد قدوم الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أميراً جديداً، ليجري في شباط/ فبراير 2001 استفتاء على عملية إصلاح سياسي، تُحوَّل بموجبها البلاد إلى نظام ملكي دستوري، يتمتع بمجلس نواب وجهاز قضائي مستقل. وفي 2002، أصبح الأمير ملكاً للبلاد. وفي العام نفسه، أُجريت تعديلات دستورية تبعتها أخرى، كان منها تقويض الحقوق السياسية، وتغييب الفصل بين السلطات الثلاث، مع ما جرّه ذلك من نتائج مدمّرة، منها غياب المحاكمات العادلة.
كان الجواب على انتهاك الحقوق والحريات على مدى تلك السنوات حراكاً شعبياً واسعاً، لكنه قوبل بالإمعان في الإجراءات القمعية، والقفز فوق القوانين، واستحداث تعديلات تشريعية لتطوير قدرات المنظومتين الأمنية والقضائية على ممارسة عمليات العقاب الجماعي. لقد مُنحت السلطة التنفيذية سلطة تقديرية مطلقة، حتى من دون تعليل أو إخطار مسبق للمستهدَف بالإجراء، أو إعطائه فرصة الدفاع عن نفسه. ذلك رغم أن في الأمر تجريداً من الأوراق القانونية الثبوتية، ومن الحقوق المدنية والسياسية، علاوة على السجن والتعذيب والإخفاء والإعدام.
التهم التي وُجِّهت إلى المعارضة البحرينية لا تتعلق بارتكاب جنايات أو حتى جنح، بل بالحق في التعبير عن الرأي أو المشاركة في تجمع سلمي. وفي ذلك مخالفة صريحة للقانون الوطني البحريني، وللاتفاقيات الدولية التي أبرمها هذا البلد، وللشرعة الدولية. ولنا في المثال الأخير للاعب البحريني حكيم العريبي أكبر مثال على ملاحقة كلّ من يروق السلطاتِ ملاحقتُه لسبب أو لآخر. يغيب عن ذهن هذه السلطات أن حق الدول في تقرير مصير رعاياها ليس حقاً مطلقاً، بل عليها الامتثال لالتزاماتها الدولية.
لقد عكست التحركات المطلبية في البحرين اهتماماً متفاوتاً على الصعيد الدولي، قد يراه البعض خافتاً إلى حدّ ما، على رغم ضراوة القمع والانتهاكات بمواجهة احتجاجات بقيت طوال سنوات متعاقبة سلمية. وهي انتهاكات طاولت كل شرائح المجتمع التي احتجّت على القهر، من الصحفيين والكتّاب وأصحاب الرأي، إلى الأطباء والعاملين في الحقل الصحي، إلى الرياضيين والمعلمين والطلبة والعمال. وعلى الرغم من ورشات العمل والمفاوضات والتقارير والتوصيات التي أدارتها وأصدرتها الأمم المتحدة وغيرها من جمعيات حقوقية دولية، فقد تواصلت هذه الانتهاكات، لا بل تصاعدت بنحو نوعي ومنهجي، مع ما يحمله ذلك من خطر، ليس فقط على ضحايا الانتهاكات، بل أيضاً على المؤسسات الحقوقية، التي يصبح التشكيك في جدواها وفعاليتها مبرراً.
قابلت السلطات البحرينية ذلك بأن ناورت وراوغت وقفزت فوق القوانين المحلية والدولية، غير آبهة لمغبة ما تفعله. ومن جملة الخطوات التي اتخذتها، ضمن دبلوماسية «القبضايات» والاستهتار بالمنتظم الدولي، التعاقد مع شركات ووسائل إعلام أوروبية وعالمية لتحسين صورتها ولتشويه الحراك السلمي إعلامياً واتهامه بالارتهان للخارج وممارسة العنف. ومقابل دسّ معلومات ترويجية كاذبة ومغلوطة عن النظام وعن «تعامله الإنساني» مع المتظاهرين، بثّت دعاية عن «الخلايا التآمرية» للناشطين المعارضين، لتتحول من ثم إلى استعمال مصطلح «الإرهاب» عند تناول موضوعهم.
اليوم، في ظلّ وضع اقتصادي صعب، وتباطؤ النمو العالمي، تتجه الأنظار نحو المسار الاقتصادي القادم للدول العربية المنتجة للنفط. والبحرين من الدول التي تعاني من الازدياد السريع للدَّين العام والارتفاع المستمر في عجز الميزانية. إن كان قلق النخب الحاكمة لغياب شرعيتها يدفعها إلى المبالغة في القمع، فكل عاقل يرى في وقف العنف ضرورة وجودية تُفرض على رأس التحولات المستعجَلة المطلوبة لهذه المنطقة من العالم. العنف الذي يُعمِل معاول الهدم في البنية التحتية، وفي الاستثمار والاستقرار في المنطقة العربية، يكبّد اقتصادياتها تريليونات الدولارات. فهل للبحرين أن تعيش ما عاشته أخوات لها لم تعرف كيف تنتهز الفرصة المناسبة لوقف التدهور المخيف؟ أم يمكن تحويل المسار بسرعة وجدية وشجاعة قبل اشتعال النيران في الهشيم، الذي يمكن أن يكون مدخلاً لتفكيك الدولة؟ مصاب بالعمى من لا يرى التحولات القادمة. كذلك، إن وقت الحساب لا بد قادم، وما من جريمة تسقط بالتقادم.
واقع كهذا يجب أن يكون حافزاً على الإسراع في وضع خطة لخلق بيئة إيجابية، واتخاذ تدابير لبناء الثقة، وجمع أبناء البلد حول طاولة حوار. فالخطر على البحرين، وعلى الدول الخليجية عموماً، ليس من إيران كما يحلو لهم الصياح صباح مساء، بل من حالة عدم رضا شعبها، ومن تهميش شبابها، ومن إحساسه بعدم وجود مخرج سياسي للمظالم التي يعيشها. هو يطالب بإصلاحات سياسية توفر له بديلا آخر من الفكر السلفي والتدميري والضياع الوجودي. وكي لا يحيد هذا النضال السلمي عن مساره الصحيح، ويشرّع الباب أمام التدخلات المباشرة والتفكيك وبلوغ نقطة اللاعودة، من الأجدى الاستعجال باتخاذ الإجراءات الكفيلة بإطلاق مصالحة وطنية، والشروع الجدي في حوار يضع برنامجاً لتحول ديمقراطي فعلي.
* رئيسة «اللجنة العربية لحقوق الإنسان»