خلف مشاهد الانتصارات التي تحاول السلطتان المتنافستان في ليبيا إظهارها، وعلى رغم ارتفاع حجم انتاج النفط إلى نحو مليون برميل يوميّاً، تقبع أزمة اقتصاديّة خانقة تهدّد بتعقيد المشهد السياسيّ أكثر، وبمسّ التوافقات المحدودة والتعايش الأهليّ الهشّ. ضمن هذا السياق، لا تكتفي القوى الإقليميّة والدوليّة في مساعيها لتعزيز نفوذها بتقديم الدعم العسكريّ للمتقاتلين، بل تطلّ كذلك من البوابة الاقتصاديّة لتقديم «مساعدات إنسانيّة».في آخر حدث ضمن هذا المسار، وصلت في الأيام الماضية، مساعدات إماراتيّة «لمناسبة شهر رمضان» إلى جنوب ليبيا، وهو خبر يبدو للوهلة الأولى هامشيّاً، لكن يُخفي وراءه شبكة من الصراعات والمصالح. وفي حديث إلى «الأخبار»، يقول الباحث الليبيّ بشير الزواوي، إنّ «هذه المساعدات ليست فقط من أجل الفقراء والمحتاجين... فهي جزء من عمل أوسع يجري في الجنوب من أجل محاولة بسط سلطة (المشير خليفة) حفتر هناك». علاوة على ذلك، فإنّ هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها الإمارات بمثل هذه التحركات لتثبيت موطئ قدم لها في الجنوب، حيث يُذكّر الزواوي بـ«حادثة مطار غات»، حين سيطرت عام 2014 قوات من «فجر ليبيا» على طائرة إماراتيّة في المطار الذي يقع جنوب غربي البلاد وقالت إنّها محمّلة بالذخائر العسكريّة.
بين هذين الخبرين يكمن التغيّر في خريطة السيطرة العسكريّة وتقاطعها مع خريطة «المساعدات الإنسانيّة». في فترة سابقة، كان النفوذ في الجنوب الغربي الليبيّ لسلطة غرب البلاد التي انتقلت من «المؤتمر الوطني العام» و«حكومة الانقاذ» المرتبطة به إلى «المجلس الرئاسيّ» الذي جاء به «اتفاق الصخيرات السياسيّ». حاليّاً، تحاول سلطة الشرق، بقيادة خليفة حفتر أساساً، بسط نفوذها العسكريّ هناك، لكن لا يزال هذا الانتقال غير مكتمل إلى حدّ الآن، إذ يعوقه الاقتتال المحليّ بين القبائل وتشتّت الولاءات وتغيّرها المستمر مع تغيّر مصالح الفاعلين على الأرض.
كانت «سلطات الشرق» قد منعت عمل منظمات قطرية سابقاً


يندرج الجهد الإماراتيّ ضمن مسعى حسم الصراع لمصلحة حليفها القويّ حفتر. وتشير الصور المنتشرة حول المساعدات الأخيرة إلى أنّ العمليّة تمت «برعاية المجلس الاجتماعيّ لقبائل الطوارق»، ويمكن الإشارة هنا مثلاً إلى اتفاق «المصالحة الشاملة» بين قبائل الطوارق والتبو الذي تمّ بجهود قطريّة عام 2015، فيما يوحي ما يجري الآن بتراجع النفوذ القطريّ لمصلحة النفوذ الإماراتيّ في الجنوب الغربي، وإن كان ذلك غير قابل للتعميم بصورة مطلقة. ومن الجدير بالذكر أنّه في سياق الصراع في ليبيا وارتباطاته بالخارج، منعت سلطات شرق البلاد سابقاً عدداً من المنظمات القطريّة من العمل في مناطق نفوذها، ومن بينها مثلاً منظمة «قطر الخيريّة».
هذه «المساعدات» لا تحل أي أزمة، فعلى سبيل المثال، تنتشر في شكل يوميّ نداءات من المستشفيات والفعاليات المدنيّة المحليّة في الجنوب الغربيّ الليبيّ، تطالب بإمدادات من الدواء والمستلزمات الطبيّة، إضافة إلى حاجات أخرى طبعاً، فيما يؤكد الزواوي أنّ الوضع لم يكن بهذه الحدة في السابق. ويرى الباحث أنّ استفحال الأزمة جاء بعد انسحاب «القوّة الثالثة» من الجنوب الغربي العام الماضي، وهي قوّة تتكوّن من تشكيلات عسكريّة تابعة لمدينة مصراتة تحمل سجلّ عمليات مثيراً للجدل. يرسم الزواوي تحليله بناءً على أنّ «الجنوب يعتمد في شكل كبير على إمدادات السلع والوقود من الشمال ومن مصراتة بالذات التي يوجد بها أكبر أسطول للنقل البريّ، (لكن) توقّف سائقو الشاحنات عن الذهاب للجنوب بعد خروج القوة الثالثة وتدهور الوضع الأمنيّ، ما أثر على وصول السلع».
بعيداً من التفاصيل (المهمّة)، يرى جلال حرشاوي، الباحث في الشؤون الليبيّة، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ المسألة في ليبيا ككلّ ترتبط في شكل عام بـ«الاختلال السياسيّ، الاستقطاب، والفساد»، و«لا علاقة لها بالفقر». بناءً على ذلك يمكن الربط بين تحليل الباحث وبين ما يمكن أن نطلق عليه «التفقير»، حيث تشهد ليبيا أزمة سيولة كبرى، وتنتشر صفوف طويلة من الناس أمام البنوك في كامل البلاد لانتظار تسلم رواتبهم، كما توجد أزمة عملة صعبة، أساسها الفرق الشاسع بين قيمة الصرف الرسميّة وقيمة الصرف في الأسواق السوداء.
وتعود أزمة السيولة في رأي حرشاوي إلى الفساد، حيث تستفيد مجموعات إجراميّة، ترتبط أحياناً بالميليشيات التابعة للأجهزة الرسميّة، بالمضاربة بالعملة واستغلال الناس من خلال صرف شيكاتهم بأسعار أقلّ من قيمتها نظراً لانعدام السيولة في البنوك. وتتعلق أيضاً برفض خفض قيمة الدينار الليبيّ «نظراً للانقسام السياسيّ، الاستقطاب، والعجز عن تنسيق سياسة شاملة ترتبط بمثل هذا القرار الكبير».