تأثيرات متعدّدة يُتوقع أن يخلّفها قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، استبدال وزير خارجيته على الملفات الإقليمية والدولية. تأثيرات لن تكون الأزمة الخليجية، حتماً، بمنأى عنها، خصوصاً أن السلف والخلف معروفان بافتراقهما عند هذه النقطة، إلى جانب نقاط أخرى. القرار، الذي يسبق بحوالى أسبوع بدء الزيارات المتتالية للزعماء الخليجيين إلى البيت الأبيض، يبدو واضحاً أنه لا يروق قطر، فيما تطرب لسماعه كل من السعودية والإمارات، التي دار حديث عن لعبها دوراً في إزاحة ريكس تيلرسون من المشهد. في ضوء ذلك، يمكن توقع ضغوط أميركية على الدوحة، قد يصعب على الأخيرة الانفكاك منها بعدما وضعت الكثير من أوراقها في «سلّة» واشنطن، أملاً في انزياح إدارة دونالد ترامب إلى جانبها في الصراع المحتدم بينها وبين جيرانها منذ حزيران/ يونيو 2017.لم يكن تيلرسون، القادم من عالم التجارة النفطية، على توافق مع الرؤية «الترامبية» للأزمة الخليجية. أبدى الرجل، منذ البدايات، نوعاً من التعاطف مع القطريين، في وقت كان فيه رئيسه يكيل التغريدات المسانِدة لخطوات دول المقاطعة. حرص المدير السابق لأكبر شركة نفط في العالم (من حيث القيمة السوقية) على منع تطور النزاع إلى مستويات أكثر خطورة مما ذهبت إليه السعودية والإمارات، محاوِلاً إقناع الأخيرتَين بالاكتفاء، من جملة مطالبهما من قطر، بما يمكن القبول به وتطبيقه. وعلى خط مواز، اشتغل تيلرسون، ومعه بعض الشيء وزير الدفاع جيمس ماتيس، على كبح جماح ترامب، والحيلولة دون انزلاقه إلى تأييد عمل عسكري ضد «إمارة الغاز». اشتغال بدت تأثيراته واضحة خلال الآونة الأخيرة، حيث بدأ الرئيس يسجّل مواقف أكثر «اعتدالاً» و«توازناً» إزاء خلاف «الأشقاء»، متخذاً مسافة من كل من الرياض وأبو ظبي.
هذه المسافة اجتهد وزير الخارجية السابق في رسمها، من خلال سلسلة خطوات استهدف من ورائها سحب الذرائع من أيدي المعسكر المسانِد للتصعيد ضد الدوحة. برزت من بين تلك الخطوات مذكرة التفاهم التي وقعها تيلرسون مع نظيره القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في الأول من آب/ أغسطس 2017 لـ«مكافحة تمويل الإرهاب». مذاك، استشعر القطريون أن بإمكانهم استمالة واشنطن عبر اتخاذ قرارات مرضية لمسؤوليها في الملفات «الحساسة» بالنسبة إليهم. كان واضحاً أن الإمارة الصغيرة تدخل بسياستها هذه دوامة يصعب تقدير نهايتها: اتفاقيات مع شركات استشارية أميركية لتعزيز نظم مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، عقود مع شركات علاقات عامة في الولايات المتحدة لتحسين صورة قطر وتخليصها من الاتهامات التي ألصقتها بها دول المقاطعة، التزامات بتعزيز الشفافية على غير مستوى من بينها الأنشطة الجوية... والأهم توقيع صفقات تسلح مع واشنطن كان آخرها ما أُعلن عنه قبل حوالى أسبوع من صفقة لتطوير مركز العمليات الجوية التابع للقوات المسلحة القطرية بقيمة 197 مليون دولار.
بدت مواقف ترامب أخيراً أكثر «اعتدالاً» و«توازناً»


شيئاً فشيئاً، بدأت قطر تحظى بتشجيع الولايات المتحدة وثنائها، حتى تُوّج الأمر أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي بالتوقيع، في واشنطن، على 3 اتفاقيات، من بينها واحدة لـ«حماية قطر من أي تهديد خارجي»، وذلك خلال انعقاد «الحوار الاستراتيجي الأميركي - القطري». ومع اقتراب موعد انعقاد النسخة الرابعة من القمة الأميركية - الخليجية في كامب ديفيد، ظهر أن ترامب بات مستعجِلاً ردم الهوّة بين حلفائه، تمهيداً للاجتماع السنوي الذي يعتبره الرئيس الأميركي تجلّياً من تجليات الوحدة ضد إيران. أوفِد المبعوثان اللذان كان كلّفهما تيلرسون ملف الأزمة الخليجية (الجنرال المتقاعد أنتوني زيني، ونائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج تيم ليندركينغ)، مجدّداً، إلى المنطقة، في وقت سرت فيه أنباء عن أن ترامب سيضغط في اتجاه إنهاء المقاطعة الجوية المفروضة على قطر. وفي الوقت نفسه، كان مستشار الرئيس وصهره، جاريد كوشنير، الذي كشفت وسائل إعلام أميركية دوره الرئيس والجوهري في بلورة موقف متشدد إزاء الدوحة (بدايات الأزمة)، يتعرّض لضغوط إضافية عبر إدخاله في دائرة الشخصيات المستهدفة بعمل المحقق الخاص الأميركي، روبرت مولر.
كل ذلك أوحى بأن الأزمة الخليجية قد تكون على أبواب انفراجة قبيل الربيع المقبل، إلا أن قرار ترامب الإطاحة بتيلرسون والإتيان بشخصية معروفة بتشددها (مايك بومبيو) بدلاً منه أعاد خلط الأوراق. صحيح أن تخلي الرئيس عمن يوصف بأنه «ضرس العقل» في إدارته متصل باختلاف مقاربتهما لملفات عدة في مقدمها الاتفاق النووي الإيراني والمحادثات مع كوريا الشمالية، إلا أن الاستغناء عن هذه الشخصية، التي كانت «مقاوِمة بأسلوب ناعم للعزيمة الترامبية تجاه السياسات القطرية الضارة» (على حد توصيف منابر سعودية)، في هذا التوقيت بالذات، يصعب أن لا يترك انعكاساته السلبية على مسار تطويق الخلاف، والذي كان تيلرسون شقّه منذ مدة. تلمّح السفيرة الأميركية السابقة في قطر، دانا سميث، في تعليقها على قرار ترامب، إلى بعض من تلك التأثيرات، بقولها: «لجميع من يسأل: أنا أتفق مع ريكس تيلرسون في شيئين وهما: أن قطر بلد صديق وشريك، وأن ترامب شخص معتوه».
بناءً على ما تقدم، وبالنظر خصوصاً إلى أن قرار ترامب يأتي قبيل أسابيع قليلة من زيارة مرتقبة لأمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، إلى البيت الأبيض، يمكن القول إن الرئيس الأميركي قد يستغلّ افتقاد الدوحة أحد أبرز مناصريها في الإدارة (قبالة وجود رافعة مهمة لكل من الرياض وأبو ظبي متمثلة في جاريد كوشنير) لممارسة ضغوط مضاعَفة عليها، متسلّحاً بـ«الديون» التي باتت للولايات المتحدة على قطر نظير توفيرها الحماية والحصانة لـ«إمارة الغاز». لا يعني ذلك أن دول المقاطعة لن تتعرض لضغوط مماثلة، لكنها لن تصل على الأرجح إلى حدود ما يمكن أن يقع على القطريين.