تونس | مرّة أخرى تمتزج زُرقة مياه البحر المتوسّط بلون الدم الأحمر المسفوح على شواطئه؛ فبعد مذبحة العمال المصريين على شواطئ ليبيا، جاء الدور على شواطئ تونس. الطقس المُشمس واللطيف في ساحل مدينة سوسة استحال فجأة عاصفة مجنونة من الرصاص، في عملية إرهابية جديدة هزّت تونس، بعد أقلّ من أربعة أشهر على عملية باردو.وهكذا هو عدَّاد شهداء العمليات الإرهابية يأبى التوقّف منذ 5 سنوات، ليكون شاهداً من ناحية على فشل الحكومات المتعاقبة منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في مواجهة الإرهاب (هذا إذا افترضنا أنها غير متورِّطة في دعم الإرهابيين أو بالتواطؤ)، ومن ناحية أخرى على حجم الخطر المحدق بالبلاد وبالوطن العربي بصفة عامّة.

لم يكن من الصعب توقُّع أنّ المناطق السياحية والحانات والملاهي الليليّة وأحياء اليهود في مدينة جربة مثّلت، وستمثّل مستقبلاً، أهدافاً محتملة لهجمات الإرهابيين. ولم يكن صعباً أيضاً توقع عمليات إرهابية في شهر رمضان الذي يعتبره الإرهابيون شهرهم «المفضّل»، إذ يتضاعف فيه «أجر الجهاد»، على غرار ما حصل في رمضان 2013 و2014.
إذا غابت هذه القراءة الاستباقية البسيطة فتلك مصيبة. ومن باب الإنصاف، فقد توقَّعت الحكومة هجمات إرهابية في هذا التوقيت، لكنها لم تتخذ إجراءات تتوافق وحجم التهديدات، فجعلت من المصيبة مصيبتين.
وبعد كل عملية إرهابية تمتلئ وسائل الإعلام بضجيج المحلّلين وبتصريحات المسؤولين المندِّدة والمتوعّدة، والتي تعلن «الحرب على الإرهاب». لكن حربهم هذه يبدو أنها حرب كلاميَّة وليست ميدانيّة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إذ كيف يمكن تصديق حكومة تدّعي مواجهة الإرهاب في حين أنّها تسمح لحزب التحرير الإسلامي بالنشاط القانوني، والحال أنّه حزب يؤمن بالخلافة الإسلامية ويرفع الرّاية السوداء عوض الراية الوطنية، ويعتبر الديموقراطية كفراً وبدعة غربية؟ وكيف يمكن تصديق هذه الحكومة التي تغضّ بصرها عن بعض المساجد التي يسيطر عليها السلفيّون التكفيريون وبعض الأحزاب الإسلامية؟
ليس كل من يدّعي مواجهة الإرهاب صادقاً في دعواه، وفي ما يلي أمثلة عن بعض هؤلاء الذين لا ينبغي الوثوق بهم، أو السير إلى جانبهم في معركة مواجهة الزحف الأسود:
*كاذِبٌ من يتناول ظاهرة الإرهاب بالتحليل ويتغاضى عن توظيف الإمبرياليّة ودعمها لها، منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين سنة 1928 بدعم من السفارة البريطانية (وهي التنظيم الأم لأغلب التنظيمات والقيادات الإرهابية في تاريخ الوطن العربي الحديث) حتّى يوم الناس هذا.
*كاذِبٌ من يُندِّد بالإرهاب في تونس ويتعامل معه أو يدعمه في ليبيا والعراق وسوريا، فالمعركة واحدة لا تتجزّأ (دعت بعض قيادات حركة النهضة الإسلامية سابقاً إلى الجهاد في سوريا).
*كاذِبٌ من يتحدث عن الإرهاب ويغضّ الطرف عن القوى الإقليمية التي تدعمه فكرياً وماديّاً.
*كاذبٌ من يتشدّق، من جهة، بعدائه للإرهاب ويتحالف، من جهة أخرى، مع الإسلام السياسي الذي يُعتبر القاعدة الفكرية والنظرية للإرهاب. فمن قال إن بالإمكان جمع الشاة والذئب داخل نفس الزريبة؟
*كاذِبٌ من يستغلّ كل عملية إرهابية لتجريم الاحتجاج الاجتماعي ويجد فيها فرصة للنيل من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يخوض معارك نقابيّة مهمّة منذ فترة لتحسين الظروف الاقتصادية.
*كاذِبٌ من يدّعي مواجهة الإرهاب ويتبنّى برنامجاً اقتصادياً ليبرالياً لا يساهم إلاّ في مزيد من الإفقار (وتلك هي طبيعة البرنامج الاقتصادي لحكومة الحبيب الصيد ومكوّنيها الرئيسيَّين حركة نداء تونس وحركة النهضة)، فيفتح، بذلك الواقع البائس، الباب على مصراعيه للتفكير بطريقة بائسة والارتداد للفكر الديني والتطرّف.
*كاذِبٌ من لا يُعير الجبهة الثقافيّة الأهمّية اللازمة في المعركة ضدّ التيارات الظلامية وإرهابها؛ فعلى سبيل المثال، قامت السلطة بإغلاق فضاء «مسار الثقافي»، وهو أحد الفضاءات (المساحات) الثقافية التقدمية في أحد الأحياء الشعبية في تونس العاصمة، بينما لم تحرّك ساكناً إزاء الجمعيات الإسلامية المشبوهة التي تشكّل أحد مداخل استقطاب و«دمغجة» أبناء الضواحي.
لا تنفكّ الحكومة والأحزاب الحاكمة تُردّد أنّ الحرب على الإرهاب حرب طويلة الأمد. وستكون فعلاً أطول ممّا نعتقد إذا بقيت قيادة المعركة بيد اليمين، بشقّيه الليبرالي والديني، الذي يبدو أنّه غير صادق في مواجهته للإرهاب. فإذا أردنا أن نُوقف عدّاد الشهداء ونُشغِّل عدّاد الأعداء، فعلى القوى الثورية واليساريَّة أن تتسلّم قيادة هذه المعركة وغيرها من المعارك الوطنيّة والديموقراطيّة.