ضرائب بالمليارات... ولكن لا تمويل لفروقات سلسلة الرواتب!محمد زبيب ــ نادر فوز
مضت عشر سنوات كاملة على صدور القانون الرقم 717 في 5 تشرين الثاني 1998، القاضي برفع الحد الأدنى للأجور وتحويل سلاسل رواتب موظفي الملاك الإداري العام وأفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية وتعديل أسس احتساب معاشات التقاعد وتعويضات الصرف من الخدمة وإعطاء زيادة غلاء معيشة للمتعاقدين والأجراء والمتقاعدين... هذا القانون الذي كان من المفترض أن ينصف هذه الفئات من العاملين في القطاع العام، عبر تصحيح رواتبهم وأجورهم بمفعول رجعي اعتباراً من عام 1996، أسوة بالعاملين في القطاع العام، حوّل هؤلاء إلى دائنين قسريين للحكومة لا يتمتعون بأي ميزة من الميزات الممنوحة للدائنين الآخرين الذين يحظون بالأولوية المطلقة في إنفاق الخزينة العامّة.
فقد نصّت المادة 14 من القانون المذكور على سابقة لم يشهدها تاريخ التشريع في لبنان، إذ جاء فيها أن الحكومة تلتزم بإحالة مشاريع قوانين إلى المجلس النيابي ترمي إلى فتح الاعتمادات اللازمة من أجل تأدية المفعول الرجعي المستحق اعتباراً من 1/1/1996 للمستفيدين من أحكام هذا القانون... ولكن «عند توفّر الإمكانات لدى الخزينة»! ومنذ ذلك الوقت تعيش هذه الفئات التي تمثّل ثلث القوى العاملة في لبنان على وهم تنفيذ هذا الالتزام الغامض وغير الملزم أصلاً.

800 مليون دولار فقط

موظّفون ومتعاقدون ومتقاعدون كثر توفّوا قبل أن يحصلوا على حقوقهم، بل إن أكثرية المستفيدين من هذا القانون لجأوا إلى المصارف طلباً للقروض الشخصية على حساب المفعول الرجعي الموعود من أجل مواجهة الأعباء المعيشية المتعاظمة، وبالتالي رزحوا تحت ثقل هذه القروض وفوائدها الباهظة وأقساطها التي استنزفت أجورهم الهزيلة... ولم يحصلوا على شيء حتى الآن بحجة أن التمويل لم يتوفّر بعد.
يكشف وزير المال محمد شطح لـ«الأخبار» أن التقديرات الأولية لكلفة تسديد فروقات سلسلة الرتب والرواتب لا تتجاوز 1200 مليار ليرة حدّاً أقصى، أي ما يعادل 800 مليون دولار فقط، وهذا التقدير معروف منذ إقرار القانون المشؤوم، وهو يفتح المجال أمام تساؤلات كثيرة عن صحّة التبرير بعدم وجود التمويل الكافي للإيفاء بهذا الدين الحكومي لأكثر الفئات عوزاً وحاجة بالمقارنة مع المصارف والأثرياء والمستثمرين الذين لا تتأخّر الحكومة يوماً واحداً عن تسديد أموالهم وفوائدها العالية من أموال دافعي الضرائب والرسوم المرهقين.

1.8% من الإيرادات المحققة

فمنذ إقرار هذا القانون، حصل لبنان على قروض ومساعدات طائلة من الداخل والخارج عبر قنوات كثيرة، منها اجتماعات باريس، ولا سيما الأخير الذي حشد تمويلات بقيمة 7.6 مليارات دولار بحسب إعلانات الحكومة... وقد ارتفع الدين العام المصرّح عنه رسمياً من 18 مليار دولار في نهاية عام 1998 إلى 46 مليار دولار في نهاية هذا العام، أي بزيادة قيمتها 28 مليار دولار، وهي تمثّل جزءاً من التمويلات الإضافية التي أتيحت للحكومة في السنوات العشر الماضية من دون أن تخصّص أي جزء منها لتسديد حقوق العاملين في القطاع العام.
لا بل أكثر من ذلك، فقد سدد اللبنانيون في هذه الفترة (1999-2008) أكثر من 65 ألف مليار ليرة كضرائب ورسوم وإيرادات للخزينة العامة، أي ما يعادل 43.2 مليار دولار، ولا تمثل كلفة تسديد الفروقات إلا أقل من 1.8 في المئة من مجمل هذه الإيرادات، ومع ذلك لم تف الحكومة بالتزاماتها بتسديد الديون المتوجبة عليها للموظفين والأجراء.

اقتراح قانون كنعان

يدفع عدم تطبيق القانون حتى الآن إلى الاعتقاد بأنّ إقراره بهذه الصيغة جاء مقصوداً، وهدفه ليس تسديد الفروقات بل إسكات هذه الشريحة من المواطنين في لحظة سياسية حرجة، وما يعزز هذا الاعتقاد أن جميع مكوّنات الطبقة السياسية اشتركت في إطالة أمد حجة «عدم توفّر التمويل»، فبعدما تمّ إقرار القانون العجيب عبر صفقة أو تسوية بين الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري، توالت ستّ حكومات على السلطة، وخضع المجلس النيابي لدورتين انتخابيّتين، ولم يطرح أحد من النواب أو الوزراء إمكان تطبيق هذه المادّة، إلى أن خرج النائب إبراهيم كنعان في الأسبوع الماضي بمجموعة من الأسئلة إلى الحكومة، عبر رئاسة المجلس النيابي، عما إذا كانت الحكومة الحالية تنوي إحالة مشاريع قوانين إلى المجلس لفتح الاعتمادات اللازمة لتأدية المفعول الرجعي المستحق... ومن المقرر أن يضع النائب كنعان اقتراح قانون لإلغاء المادة 14، أو تعديلها لتنص على فتح الاعتمادات اللازمة فوراً من أجل تأدية المفعول الرجعي، أي إلغاء كل ما يتعلّق بعبارة «عند توفّر الإمكانات لدى الخزينة».

تقسيط أو تمييع إضافي

ويدفع الشكل الحالي للتركيبة السياسية إلى التساؤل عما إذا كانت القوى المشكّلة للسلطة اليوم مستعدة للتراجع عن الصفقات التي مرّرتها سابقاً، وخاصةً أنّ هذا الموضوع يمكن استغلاله سياسياً في هذه المرحلة، مع اقتراب الانتخابات النيابية في عام 2009. فمن سيقف بوجه إقرار هذا التعديل أو بتّ هذه القضية سيظهر بصورة السالب لحقوق المواطنين أو العائق لتطبيق القانون.
إلا أن رئيس الحكومة يستعدّ على ما يبدو للمزيد من التمييع، وبحسب المعلومات، فقد أوعز إلى وزير المال للبدء بدراسة مشروع قانون يرمي إلى تقسيط الفروقات المستحقة على مدى سنتين، واقتراح إيرادات جديدة لتمويل كلفة هذه الفروقات وإثارة الرأي العام ضدها، أو تقديم التزام جديد شبيه بالمادة 14 في إطار مشروع موازنة عام 2009 يقضي بوضع هذا الملف في منزلة ملفّي المهجرين ومجلس الجنوب وطلب الإجازة لإصدار سندات خزينة لتغطية الكلفة وإقفال الملف في مهلة أقصاها 2010.


68٬5 مليار دولار

هو حجم الإنفاق العام منذ 1999 وحتى 2008، أكثر من نصفه ذهب إلى تسديد خدمة الدين العام للمصارف وأصحاب الثروات، ما عدا الموظفين والأجراء والمتعاقدين والمتعاملين والمتقاعدين الذين أجبروا على تقديم دين للحكومة بقيمة 800 مليون دولار فقط وهي ترفض حتى الآن تسديده لهم.

شطح يدرس الملف


قال وزير المال محمد شطح إنه يحاول دراسة هذا الملف العالق، وينوي «خلال عمر هذه الحكومة تقديم مجموعة من الاقتراحات لتنفيذ القانون». وأضاف: من السهل استدانة المال لتسديد الأموال اللازمة، ولكن هل هذا هو الحل الأمثل؟ مشيراً إلى وجود خوف لدى هذه الشرائح من عدم تنفيذ القانون «والخوف هو من ضبابيّة أن يستمر الجوّ كما هو، والتذرّع الدائم بعدم وجود مال في الخزينة».