معاذ عابدعدت إلى المنزل وأنا أنتظر فرصة لأسأل أبي من أي بلد نحن، فلم يأتِ قبل أن أنام. وفي اليوم التالي، كنت أجلس في الطبقة الثالثة وأمامي ما لا يقل عن اثني عشر طالباً ليجيبوا عن السؤال نفسه.
وقعت في حيرة من أمري. ماذا أفعل؟ ماذا أقول له؟ من نابلس؟ طبعاً لا. ولكن المعجزة حصلت عندما أجابه أحد الطلاب بأنه لم يسأل والده، فأكد الأستاذ علي على سؤاله: عندما تعملون عرساً أو يكون عندكم عزاء، ألا تذهبون إلى جمعية أو ديوان باسم ما؟ فتذكرت على الفور أن أحد أقاربي قد أرسل إلينا دعوة لعرس ابنه وقرأت: «بما أني أستطيع القراءة قبل دخولي المدرسة»، أن العرس في جمعية الفالوجة.
باغتني الأستاذ علي بالسؤال: وأنت يا معاذ، هل عرفت من أي بلد أنت؟ فأجبت ببلاهة: «من جمعية الفالوجة إستاذ». فضحك التلاميذ وأنا لم أنتبه من أي بلد أنا، إلا عندما ضحك. وقال: «من الفالوجة يا حبيبي، من الفالوجة». كان الشعور جميلاً عندما انتبه أنني لم أعرف من أي بلد استناداً إلى مصدر من الأهل بل بسبب فطتني لسؤاله السابق. وكان الأمر يتكرّر في كل صف، لا بل استشرت حمى «من أي بلد؟» بيننا كطلاب وفي الصفوف الابتدائية حتى صرنا نعرف بلدان بعضنا بعضاً: محمد من جنين، عرفات الرملاوي، حسن اليافاوي، سامي من عين كارم.
اللافت أيضاً أن اللهجات كانت تختلف بيننا. أنا كنت أتحدث لهجة «كال وكلنا»، وهناك من يتحدث المدنية «آل وإلنا»، وطبعاً اللهجة القيسية أو البدوية للطلبة من بئر السبع ومن جنوب فلسطين بحرف «ج» الملفوظة كما في «غوغل» (Google).
هكذا، ببساطة اجتمعت فلسطين بقراها ومدنها وأقضيتها ولهجاتها في غرفة تتسع لأربعين طفلاً حكم عليهم اللجوء أن يتعلموا في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» ذات البوابات والشبابيك والأعلام التي تحمل اللون الأممي الأزرق.