صور | قد يتوقف أي زائر لمدينة صور عند تجمّع جل البحر. هذا التجمع يحمل في طيّاته من الميزات، ما تجعله مختلفاً عن باقي المخيمات والتجمعات الفلسطينية الثمانية الأخرى في المنطقة. فالداخل إلى المدينة، من مدخلها الشمالي، تأخذه المجمعات التجارية والمحال والمباني الفاخرة الحديثة أو مثيلاتها قيد الإنشاء. لكن، ما إن ينحرف الزائر يميناً، ليسلك الطريق المختصرة إلى قلب صور، حتى يفاجأ بالتناقضات. عند هذا المفترق، يرتفع مركز تجاري ضخم قيد الإنشاء يساراً
، تحاذيه صالات عرض فخمة للسيراميك والسيارات غالية الثمن، ومبان سكنية ذات شقق فخمة، بمتناول الطبقات الميسورة وحسب. أما من الجهة اليمنى، فيترامى البحر، ويستلقي أمامه شاطئ رملي مسيّج. في وسطه لافتة تحذّر من رمي النفايات تحت طائلة المسؤولية. وحول اللافتة، تنتشر الأوساخ التي تختفي لدى وصولنا في ما يبدو للوهلة الأولى أنه مجموعة من الأكواخ التي تصطف على طول الشارع المؤدّي الى ملعب البص ثم الى المدينة.
وبعد السؤال، يتضح للمرء أن المساحة الممتدّة على طول أكثر من كيلومتر واحد بمحاذاة الطريق هي تجمع لنحو 240 منزلاً يقيم فيه نحو 1200 لاجئ فلسطيني.
تضمّ المنطقة أحد أوضح شواهد اللجوء الفلسطيني في لبنان. لكن، يصعب تمييز ذلك بالإشارات المعروفة: فلا حاجز تفتيش للجيش اللبناني ولا زحمة لشعارات الفصائل الفلسطينية المختلفة، أو صور لقادتها.
بالكاد ترتفع أعلام فلسطينية من بين ألواح الزينكو التي يغلب عليها الصدأ بسبب ملاصقتها للبحر. بيد أن الواقع المعيشي يبرهن على صلة «النسب» بالحرمان الفلسطيني. مع ذلك، فالتجمع غير مشمول بخدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، حتى من ناحية العيادات الاستشفائية المتوافرة في التجمعات الأخرى، رغم أنّ معظم عائلاته مسجّلة في لوائحها، وفي خانة حالات العسر الشديد. لكن، في جل البحر، هناك أسباب إضافية للقهر
الفلسطيني.
فالطريق المحاذي للبيوت يمثّل ممراً رئيساً للوصول إلى قلب المدينة، منذ استحداثه قبل عشرين عاماً. ولأنه لا رصيف فاصلاً، ولا شبكة إنارة، ولا مطبات أو إشارات لضبط السرعة وتخفيفها، سقط ثمانية أطفال من أبناء المخيم خلال السنوات الأخيرة ضحايا حوادث صدم أثناء توجههم إلى مدارس الأونروا، في مخيم البص القريب، كان الطالب محمد الأحمد (14 عاماً) آخرهم. أما آخر الجرحى، فكانا الشقيقين محسن وإبراهيم حسن، اللذين صدمتهما سيارة مسرعة أثناء وقوفهما أمام منزلهما.
هذا من الجهة الأمامية للتجمع، أمّا من الخلف، فالبحر حاضر لابتلاع البيوت إذا ما هاج. حصل ذلك فعلاً قبل أسابيع خلال العاصفة الأخيرة التي خلّفت أضراراً في عدد من البيوت التي دخلت إليها مياه الأمواج، لدرجة أن الأخبار العاجلة قالت إن 30 منزلاً هناك جرفها البحر، أما مياه الأمطار فتجمعت في الشارع بركاً كبيرة صبّت في البيوت لعدم وجود شبكات بنى تحتية لتصريفها. ونقل أمين سر اللجنة الشعبية في التجمع، وليد مرعي، عن إحصاء أجرته الأونروا بعد العاصفة، أن «هناك 90 بيتاً معرضاً للخطر خلال الشتاء، و18 بيتاً لم تعد قابلة للسكن مع وجوب إخلائها فوراً». وإذ كان البحر هو الذي يحاصر الجهة الخلفية للتجمع، فأصحاب رؤوس الأموال يحاصرونه من المقدمة. وقد شاعت في الآونة الاخيرة أحاديث عن نية عدد من المستثمرين التمدّد بمشاريعهم الاقتصادية نحو بيوت هؤلاء الفقراء للاستفادة من الواجهة البحرية. وكانت إحدى عائلات التجمع، آل سالم، قد أخلت منزلها قبل عام، بعد شكوى قضائية رفعها عليها أحد المتمولين لإجبارهم على ترك المنزل، إثر شرائه العقار الذي بني عليه، تمهيداً لهدمه واستثماره. وأخيراً، حكم القضاء بإخراجهم من منزلهم لمصلحة المالك الذي منحهم تعويضاً... مالياً. ويخشى تكرر المسألة على يد المستثمرين. وفي هذا الإطار، يؤكّد مرعي أن «اتفاق القاهرة يمنع نقل أي مخيم أو تجمع فلسطيني إلا بقرار عربي».
سقى الله أيام اتفاق القاهرة. ويستفيض مرعي مؤكداً أنه إذا صار الانتقال أمراً واقعاً «يجري التفاوض بين المستثمرين ومنظمة التحرير الفلسطينية لضمان بديل لائق للّاجئين» لأن هؤلاء، رغم شدّة ألمهم، لن يكونوا حاجزاً أمام تجميل المدينة.
وكان للعاصفة الأخيرة فوائد لجل البحر رغم مصائبها. فقد تنبّهت أطراف عدة، إلى أنه إلى جانب الطريق التي يسلكونها يومياً، هناك ناس يعيشون في ظروف قاسية. قُدّمت المساعدات لإغاثة العائلات المنسية، التي تفقّدها، أخيراً، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عبد الله عبد الله، وأمين سر حركة فتح في لبنان، فتحي أبو العردات، وشخصيات أخرى حضرت متضامنة مع التجمع المنكوب. وأبرز ما سجلته وعود العاصفة، وعد الرئيس الفلسطيني الاهتمام بالتجمع عبر تمويل صيانة منازله ودعم عائلاته.
أما الفائدة الفعلية التي بدأ الأهالي يلمسونها، فهي مبادرة منظمة أرض البشر، التي ركّبت مطبّات ضوئية في الشارع، ولمبات إنارة، إضافة إلى لافتات تحدد سرعة السيارات العابرة في الجل العابر.


من الحدود إلى الجلّ

تأسس تجمّع جل البحر في عام 1951، على أملاك بحرية عامة، بعدما طلبت الحكومة اللبنانية من اللاجئين الفلسطينيين حينها «الابتعاد عن الحدود مع فلسطين المحتلّة». ومن بساتين العزية جنوبي صور، اختار عدد من العائلات المنحدرة من بلدات الزاب وصفد وعرب الرمل والسويلات والديشمون في قضاء ترشيحا، الارتحال إلى الجل «لأنها منطقة مناسبة لمعيشة شبيهة بحياة البدو والرعي» يقول أمين سر اللجنة الشعبية في التجمع، وليد مرعي. ومع وفاة الأجداد والآباء، أقلع سكان الجل عن تربية الماشية وانتقلوا إلى العمل في بساتين المنطقة وصيد السمك.